إن لله في هذا الكون سنناً لا تتبدل، وقوانين لا تتغير، ومن يحاول مغالبتها فهو منكسر لا محالة، ومن يغفل عنها أو يسعى إلى تجاوزها فلن يفلح أبداً، منها أن الغُنم بالغُرم، والإنجاز يتطلب العطاء، والنصر لا يكون بغير الفداء، وإن استمرار البذل يقود إلى خير جزل، والتضحية تصحبها البركة.
بهذا قضى الله من قبل، وهكذا كانت سير الأولين والآخرين من البشر، فهذا إبراهيم عليه السلام قد استعد للتضحية بفلذة كبده إرضاء لربه فحفظه الله له. وجعله أمة وحده. ثم جعل ذكره في العالمين منشوراً وكتب له القبول في الأرض حتى تسابقت الملل والأديان للانتماء إليه، ولما رضي إسماعيل عليه السلام أن يذبح طاعة لخالقه، جعل الله من ذريته خير البشر وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث الغلام الذي ترويه كتب الحديث مفصلاً عبرة وعظة. ذلك أنه آمن بالله على يد الراهب. وترك الساحر وكفره. وأظهر الله الكرامات على يديه حتى بلغ أمره الملك الذي حاول قتله فلم يفلح، حتى دله الغلام على طريقة يقتله بها. وذلك من خلال سهم يرميه الملك بيده شريطة أن يعلن أنه يرميه باسم رب الغلام. فلما فعل آمن الناس كلهم بالله تعالى بعد أن رأوا تضحية الغلام بنفسه من أجل دينه وعقيدته وكان من بركته أن سطر الله تعالى ذكره في القرآن يتلى إلى يوم الدين في قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج.
تريد أن تكون مثل الياسين ولم تسلك دربه.. وتحسد العياش ولم تقدم مثل تضحيته، وتحسب أن الله لا يعلم ما في نفسك. وأنه لا يعرف منزلة التضحية عندك!
وبعضنا اليوم يريد لفكرته أن تنتشر بين الناس دون تعب أو بذل أو جهاد وتضحية. يظن أن الأمر يتبع هواه ويحسب أن العدو قد يتراجع طوعاً أمام عجزه وخوره. وكأن هؤلاء ما سمعوا مقولة خبير تنبؤهم بأنه "ولا بد دون الشهد من إبر النحل". فالداعية الذي يعشق السلامة دوماً لن يتقدم. والأخ الذي يؤثر الدفء في فراش زوجته على ساعة برد في موضع رباط لن يحرز نصراً. ومن يبخل على حركته بماله ووقته فهيهات أن يهزم عدواً أو يرد معتدياً. فإن أردت المعالي فسبيلها الدماء، والسيادة تحتاج إلى عرق يبلل ثيابك. وفلسطين لن تعود إلا حين تشمّر لها، وتحمل سلاحك حافي القدمين لا تبالي الجراح، تردد مع الشاعر أرجوزة البذل المتواصل بقلب لا يلين. وهمة لا تتراجع
ومن لا يهوى صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
وهدفنا أعلى من الجبال وأسمى من قممها، فلا تلتفت إلى ما هو دون، ولا يغرنك العاجزون الباحثون عن الراحة وإن لبسوا ثوب الحق فإنهم في القاع، لا أثر لهم ولا بقاء وكأنك من مكانك المرتفع وقد أثخنتك المحن لا تسمع لهم صوتاً ولا ترى لهم عملاً، فتابع سيرك ودع عنك وساوس الشيطان وأحاديث النفس في لحظة ضعف أو ساعة اختبار، فأنت على الحق والدرس قد تعلمناه من الشهيد سيد قطب الذي قال ببلاغته المعهودة وسحر بيانه "إن كلماتنا وأفكارنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء". فالكلمة من دون التضحية دمية يلهو بها الأطفال، والانتماء دون جهاد وعطاء كنمر من ورق لا يخشاه الأعداء.
لهيب رمال الصحراء على جسد بلال مرّغت أنوف جلاديه، وصمود مجاهد في أقبية التحقيق اليوم توهن عزائم زبانية التعذيب، وسياط عتلٍ جبار تلفح ظهر عمار بن ياسر تعلي من شأنه وترفع قدره، حتى كان موقفه دليلاً على الحق في ساعة فتنة كانت أواخر العصر الراشدي، ورب جرح أصاب مجاهداً في الميدان ينير الله به الطريق لجند حماس ولاجئو شعبنا في هذا الزمان وقد أخرجوا من ديارهم يتطلعون إلى المهاجرين في زمن النبوة حين ضحوا ببيوتهم وممتلكاتهم من أجل العقيدة فردهم الله إليها فاتحين ولو بعد حين. وآخرون اليوم هدمت منازلهم ودمرت مساكنهم وعطلت تجارتهم فكانت تضحيتهم سمة عزة في حياتهم إذ لم يخضعوا وتصبّروا.
التضحية نهج، نتداوله في صفوفنا ونورثه للناشئة، ونرى أن الارتقاء في السلم التنظيمي له معايير وضوابط من بينها حجم تضحية الأخ ومدى استعداد القائد للبذل المتواصل
وللتضحية بالنفس نور على مر العصور، فدماء القرّاء في حروب الردة حفظت علينا الدين، ودماء المقاتلين في فلسطين تحفظ للقضية ثوابتها وهي السبيل لاسترداد الحقوق وإعادتها، والإنسان يعشق المال ويكنزه، فيما المؤمن يضحي به وينفقه وقوافل عثمان في يوم العسرة بتبوك شاهدة على فضله، ومعاركنا اليوم تقر بالخير وتعترف بالفضل لورثة عثمان من أهل المال بين المسلمين، لقد أدرك الإمام البنا مؤسس حركتنا الأم أهمية التضحية فجعلها من أركان البيعة. وبيّن معالمها بقوله "بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية. وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه". هكذا بهذه البساطة وبهذا الوضوح وتظن نفسك بعد ذلك تنال بركة الجهاد مع حماس من دون تضحية ومن غير بذل وتريد أن تلقى الله يوم القيامة بغير أثر من مقاومة ثم تزعم أنك تسعى إلى عليين.
إن استقراءً لتاريخ القضية وحاضرها يثبت أن الشعب الفلسطيني يؤيد أهل التضحية ويلتف حول مشروعهم ويتبع قولهم. والناس بعد ذلك تقدم المال والولد لكل حركة تتلقى حراب المحتل في صدورها.
وقد تبع شعبنا من قبل قوى وفصائل من أجل ذلك رغم أفكارها العلمانية واليسارية، واليوم يسلم القيادة لحماس يرضى السير خلفها بسبب مشروعها الإسلامي الأصيل ابتداء، ثم من أجل دماء وأشلاء وتضحيات قدمتها حماس على مر السنين وما زالت.
ولسنا نبحث عن الموت والدمار عبثاً، ولا نبذل الأرواح من أجل تأييد شعبي ودعم جماهيري، لكنها سنة الله في الدعوات، ونحن نلبي نداء ربنا في كل حين، مع أمنياتنا بالسلامة والأمن لحركتنا وشعبنا.
الشعب الفلسطيني يؤيد أهل التضحية ويلتف حول مشروعهم ويتبع قولهم. والناس بعد ذلك تقدم المال والولد لكل حركة تتلقى حراب المحتل في صدورها
حماس في هذا العصر تجدد للأمة صور التضحية والفداء، وتعيد مجد الأولين من السلف الصالح، وهي تعلم الدنيا نماذج فذّة سيحفظها التاريخ وتتناقلها الأجيال لقرون قادمة.
ويقود الركب قادة عظام يتقدمهم الشيخ أحمد ياسين، ومنهم من مضى إلى الله بصحبة نسائه وأولاده بعد تدمير منزلهم كالشيخ العالم نزار ريان، ومن قبله كان القائد صلاح شحادة قد قضى نحبه مع بعض من أهله، ومن بعد آخرون ساروا على الدرب، كثير عددهم. ظاهر أثرهم، واضح فعلهم، والمعرك في غزة تشهد أن التضحية سبيل النصر والتمكين.
والتضحية نهج عندنا، نتداوله في صفوفنا ونورثه للناشئة، ونرى أن الارتقاء في السلم التنظيمي له معايير وضوابط من بينها حجم تضحية الأخ ومدى استعداد القائد للبذل المتواصل.
وجدير بنا أن نؤخر المتخاذل ونبعد الحريص على سلامته في كل مرحلة.
فنحن حركة مقاومة لا يصلح لصدارتها إلا الباذل لنفسه وماله في سبيل الله، لا يبالي بعاقبة مواقفه عليه، لا يردعه السجن عن مواصلة الطريق، يحب أهل التضحية ويقدمهم ويكرمهم كما كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وبعد: .. تريد أن تكون مثل الياسين ولم تسلك دربه.. وتحسد العياش ولم تقدم مثل تضحيته، وتحسب أن الله لا يعلم ما في نفسك. وأنه لا يعرف منزلة التضحية عندك!.