بين الذاتية والموضوعية.. نحو منهجية “عادلة” في الحكم على الأشخاص والأحداث

الرئيسية » بصائر الفكر » بين الذاتية والموضوعية.. نحو منهجية “عادلة” في الحكم على الأشخاص والأحداث
Slider_02

البداية:

بدأ اهتمامي وانشغالي بهذه "الفكرة" مع بدايات استلامي لمسؤوليات إدارية في العمل العام، وقيادتي لفرق عمل صغيرة ومتوسطة؛ وبالتالي القيام بعمليات التقييم والتقويم سواء للأشخاص أم الأعمال.

ولفت انتباهي في كل ذلك وجود قناة واحدة للتقييم، وفقط من الأعلى للأسفل؛ مما جعلني أشعر بوجود "ظلم ما" في النتيجة التي تنبني على هذا التقييم، أو على الأقل غياب كامل لوجهة النظر الأخرى؛ وخاصّة إذا كان مقام التقييم أشخاصاً؛ إذ كان هؤلاء "الأشخاص" يتعرّضون لتقييم تفصيلي جرحاً وتعديلاً، نقداً ومدحاً، دون أدنى حضور لرأيهم أو لمعلومات أخرى من أيّ طرف كان غير الجهة (والتي غالبا ما كانت فردا واحدا!) المسؤولة إدارياً. ويزداد "الظلم" وضوحاً إذا علمنا أنّ التقييم قد يكون بكلمة (مثلاً: عليه كلام، أو هو شخص غير مريح!!) تكفي لأن تحرق حاضره ومستقبله وسمعته! بل قد يكون بإشارة باليد أو العين!! والحضور يتمتم مصدّقاً محوقلا!

عندها شعرت بالغبن الشديد؛ خاصة عندما كنت أتعرّض لمواقف أكون شخصيّاً مطلعاً على معلومات أخرى غير التي تقال أو تساق كدليل على التقييم (سلباً أو إيجاباً)، فأتساءل: ترى لو لم أكن موجوداً؟! أو لم أجد الشجاعة لأتكلم (لأن مخالفة المتحدّث تحتاج لشجاعة أدبية وسياسية يندر وجودها في مثل هذه المواقف!!)؟! أو... أو... هل سيعرف ويدرك السامعون أن هناك تجنياً أو نقصاً أو مبالغة أو ظلماً في المدح أو الذم أو على الأقل عدم علم بمعلومات أخرى؟!!

لم تعد القضية محصورة بخطأ يرفع شخصا أو يقصي آخر بغير حق، بل امتدّ ليؤثر على المسيرة والمسار "للمؤسسة" بشكل عام! أليس في ذلك تضييع "للأمانة" بأسوأ صورة؟!

ثمّ يتوسّع "الظلم" أكثر؛ إذ اتسعت دائرة الاهتمام الشخصي لتصل للحكم على الأمور بشكل عام، والتي كانت في غالبها تنحو منحى الانسياق وراء الصوت العالي أو الصورة الظاهرة أو الرأي الغالب أو الانطباع... ثم تمضي الأيام (فيتغيّر الزمان والظروف والرأي والانطباع!!) فأكتشف أنّ حكمنا على ذلك "الأمر" كان خارج الحق والحقيقة... ولكم أن تتخيّلو ما كان يترتب على كل "حادثة" من أحكام، وبالتالي توجيهات وأعمال وخطط وموارد وأوقات وجهود ونفقات وعلاقات واستقطابات وصراعات كلها تأسّست على "باطل" أو وهم أو على الأقل على غير هدى!!

ثم تعدّدت الصور وكثرت المجالات واتسعت دائرة التقييم، وبالتالي آثارها على الأفراد والمؤسسات؛ فلم تعد القضية محصورة بخطأ يرفع شخصا أو يقصي آخر بغير حق، وإنما تجاوز ذلك ليغيّر مسار حياة البعض كليّاً! بل توسّع وامتدّ ليؤثر في بعض الأحيان – جذرياً- على المسيرة والمسار "للمؤسسة" بشكل عام! أليس في ذلك تضييع "للأمانة" بأسوأ صورة؟!

تناسينا أنّ لدينا ميراثاً مشرقاً ومشرّفاً نصاً وتطبيقاً في تراثنا الإسلامي، كان يكفينا الالتفات إليه ليقينا عثراتٍ كثيرة سواء في العمل العام أم في الحياة الشخصية

لكن ممّا يعزّي النّفس ويخفّف "تأنيب الضمير" أنّنا كنّا (مجموعة) نتعلم من أخطائنا فنصلحها فوراً ونحاول إعادة الحقّ لصاحبه؛ وهذا أمرٌ وإن كان فيه بعض الإيجابيّة إلاّ أنّه كان يستنزف وقتاً ويهدر جهداً ويجرح نفوساً... وهذا يعكس خطأً وخللاً منهجياً أصيلا –للأسف– وهو أنّنا كثيراً ما نغفل ونتناسى أنّ في "الإنسانية" –كلّ الإنسانيّة- حولنا إرثاً كبيراً مؤسسياً أسّس وأصّل للوصول إلى أعلى درجات الصواب (ولا أقول الكمال)، بل تناسينا أنّ لدينا ميراثاً مشرقاً ومشرّفاً نصاً وتطبيقاً في تراثنا الإسلامي، كان يكفينا الالتفات إليه ليقينا عثراتٍ كثيرة سواء في العمل العام أم في الحياة الشخصية...

انطلاقاً من كل ذلك رأيت أنّه من المفيد التطرق إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل تحت العنوان أعلاه لعله ينير أمام الناشئة والشباب –خاصّة- بصيصاً من خبرة، لا أقول يبدؤون منها، ولا أطلب ذلك، بل أملي متواضعٌ أن يوظّفوها كما يريدون وبالطريقة التي تتناسب مع مفاهيم وأهداف ورؤى وآليات جيلهم؛ فلا تكون سيفاً مسلّطاً عليهم أو جلباباً مضطرين لارتدائه، لكنهم بالتأكيد سيحتاجون يوماً ما –في مسيرتهم- للمقارعة بهذا "السيف" الذي حاربنا به دوما، كما أنّهم لا بدّ أن يشتاقوا لهذا "الجلباب" الذي ما خلعناه يوماً... كما أنّني أدعو كلّ ذي رأي وعلم وخبرة وتجربة في الموضوع للمساهمة فيما يراه ينير درباً للسالكين!

أختم هذه البداية بلفتة لطيفة للدكتور عبد الكريم بكّار:

"إنّ فقدنا للموضوعية في التعامل مع الأفكار والمواقف والأشخاص والأشياء كان من أكبر العوامل التي أدت بنا إلى التخلف والتفكك والتنازع في تاريخنا المديد".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …