من الحقائق الإيمانية والحركية الغائبة.. لم تفعل ولكن الله فَعَل!

الرئيسية » بصائر الفكر » من الحقائق الإيمانية والحركية الغائبة.. لم تفعل ولكن الله فَعَل!
الإيمان

تُعتبر عملية مراجعة الواقع الحركي من أهم الأمور التي تميز الجماعات الناجحة؛ حيث إن التصويب المستمر هو أحد ضمانات العمل الناجح، حتى على مستوى المؤسسات الاقتصادية والسياسية المختلفة، وليس في الإطار الخاص بالحركة الإسلامية فحسب.

ومن خلال النقاشات الجارية والمستمرة على مستوى الحركة الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي في الوقت الراهن؛ فإنه ثمة إشكالية مفاهيمية عند الأجيال الجديدة، يمكن القول إنها وراء العديد من الأخطاء التي وقعت في المرحلة الماضية، وقادت إلى سلسلة الأزمات التي تواجه الحركة في غير بلدٍ عربي وإسلامي، وفي دول العالم الأخرى.
تتعلق هذه الإشكالية بصيرورات الحدث على مستوى الدين بالكامل، وانسياح المشروع الإسلامي في جنبات هذا العالم، فيما يتعلق بالخلط بين مسببات الحدث والنتيجة، أو الحراك الذي يقوم به المسلم، فردًا أو جماعة، والنتائج المتحققة، وخصوصًا في جسائم الأمور.

ويرتبط هذا الأمر، بآفة من الآفات التي شابت العمل الدعوي والسياسي الإسلامي في السنوات الأخيرة، وناقشها الكثيرون، وهي آفة "الغرور" أو "التكبُّر" الدعوي، والاستعلاء الذي قد يصيب بعض العاملين في الحقل الحركي، بما يقومون به.

الاجتهاد في العمل، أمر مهم، والتضحية بالمال والنفس والجهد، إنما هي أهم صفقة يعقدها الإنسان في حياته الدنيا، فهي صفقة مع الخالق، صاحب الجزاء والعطايا

ولكنها لا تتعلق بالضبط بهذه الآفة، وإنما هي الجذر المفاهيمي الذي أسس هذه الآفة، وغيرها من الآفات التي أصابت الحركة الإسلامية، ولاسيما جيل الشباب الصاعد، الذي ربما لم يتشبع بالبرامج التربوية بشكل كامل، وألقت عوارض على العمل الحركي في الفترة الأخيرة.

بلا شك أن الاجتهاد في العمل، وطلب الأسباب فيه، أمر مهم، ومرغوب فيه، والتضحية بالمال والنفس والجهد، إنما هي أهم صفقة يعقدها الإنسان في حياته الدنيا، فهي صفقة مع الخالق الحكيم، صاحب الجزاء والعطايا.. {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)} [سورة "النساء"].. {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [سُورة "البقرة"].

ولكن نتوقف هنا عند بعض النقاط المهمة لفهم حقيقة سعي الإنسان في الحياة الدنيا في هذا الاتجاه.

النقطة الأولى، هي أن أي جهد يبذله الإنسان في سبيل الله تعالى، دعوةً وجهادًا؛ إنما في الأساس هو له، والقرآن الكريم واضح وصريح للغاية في هذه الجزئية: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272)} [سُورة "البقرة"].

النقطة الثانية، هو أنه لن يحكم أحدٌ في ملك الله تعالى، إلا بمراده عز وجل، ولا يجري شيءٌ في خلق الله، إلا بإرادته، حتى العاصي حينما يعصي، وحتى الابتلاء؛ إنما هو للاختبار والفتنة، لكي يتحقق العدل الإلهي في الحساب النهائي للإنسان.. يقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [سُورة "الأنبياء"].

وهذه الآية فيها ثلاثة أمور مرتبطة ببعضها البعض، وجاءت على النحو المقصود من لدن حكيم عليم، الأمر الأول هو حقيقة الموت، والثاني أنه قد تم ربطها بحياة الإنسان في الدنيا، بين الشر والخير، وأن ذلك بإرادة الله عز وجل، "وَنَبْلُوكُم".

أما الأمر الثالث، فهو "وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ"؛ حيث تعبر ببلاغة رائعة عن الكثير من المعاني التي ترتبط بمراد الله تعالى من الآية، مثل الحساب على ما أتاه الإنسان استجابة لابتلائه بالشر والخير، والتأكيد على أن مآل الإنسان في النهاية هو لربه تبارك وتعالى، كما أنها رسالة تأكيد على حقيقة البعث.

أي أن الآية أكدت على ثلاثة حقائق إيمانية أساسية، الأولى هي حقيقة الحياة الدنيا والتي تجري وفق سُنَّة الابتلاء بالاختيار بين الخير الشر، وحقيقة الموت، ثم حقيقة البعث، وكلها بإرادة الله تعالى.

الفعل الإنساني السوي، هو الذي يأخذ بالأسباب التي وضعها الخالق، ويسلك المسالك التي حددها له رب العزة، أما النتائج؛ فهي ترجع إلى حكمة الخالق، اختصها الله لنفسه

وأنت عندما تقوم بدورك وتأخذ بالأسباب؛ فلتعلم أنك في إطار قانون الابتلاء بين الشر والخير هذا، وأنك إن أجدت؛ فهذا يعني أن الله تعالى قد اصطفاك لمعالي الأمور، بناء على نتيجتك في اختبار النية، واختبار الابتلاء بين الشر والخير، ولو لم تفعل؛ فإنك ينبغي أن تؤمن أن ذلك لحكمة، أو أنك غير مخلص النية، وبالتالي، فسوف يستبدلك الله عز وجل.
ويقول الله عز وجل في كتابه العزيز، ذلك، ويؤكد عليه في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [سُورة "التوبة"]، ويقول تعالى أيضًا: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [سُورة "محمد"].

ومن ثَمَّ؛ فإن الفعل الإنساني السوي، هو الذي يأخذ بالأسباب التي وضعها الخالق، ويسلك المسالك التي حددها له رب العزة، أما النتائج؛ فهي ترجع إلى حكمة الخالق، وهي أمر اختصه الله تعالى لنفسه، لأن حكمته التي لا ندركها، وعلمه الذي لا يحده شيءٌ؛ أكبر وأوسع من أن نفهم مقاصد الفعل، ومتى ينجح الأمر ويتم، ومتى يفشل ويتأخر.
فهذه لو تُرِكت للإنسان؛ لما كانت بعض الحقائق التي جاءت في آية "الأنبياء" المتقدمة، وحاشا لله ذلك.

فلو أن الأمر بيد الإنسان؛ فسوف يختار أن يسود الخير أو الشر، بحسب طبيعته؛ صالحًا كان أو طالحًا، وسيفرض إرادته في هذا بكل السُّبُل، ومع تحكُّمه في النتائج – ولله المثل الأعلى – فلن يستمر القانون الإلهي الموضوع لصيرورات الحياة الدنيا، وهو قانون الابتلاء بالشر والخير.

إذًا قضية النتائج، وهي حقيقة إيمانية وفق ما تقدم؛ إنما هي بيد الله عز وجل فقط.

كل الإنجازات والحقائق الكبرى في تاريخ الإنسانية، وفي تاريخ الدين والدعوة؛ هي من عند الله، بنص القرآن، وأحاديث النبي عليه السلام

ومن ثَمَّ؛ نقول بكل اطمئنان إن كل الإنجازات والحقائق الكبرى في تاريخ الإنسانية، وفي تاريخ الدين والدعوة؛ هي من عند الله عز وجل، بنص القرآن الكريم، حتى على عين النبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".

فتأليف القلوب من الله تعالى، وليس بمقدور أي بشر كائن مَن كان أن يفعل ذلك.. {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [سُورة "الأنفال"].. وهزيمة الأعداء، كذلك، هي مِن عند الله، مهما أعدَّ لها الإنسان العُدَّة.. {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} كما في سُورتَيْ "الأحزاب" و"الحشر"، ويقول تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)} [سُورة "الأنفال"].

وحفظ الدين والقرآن، هو موكول لله، مهما فعلنا؛ فلم نكن لننجح في حفظ القرآن الكريم إلا لو أراد الله.. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [سُورة "الحِجْر] بل إن إتمام الدين نفسه؛ لا يكون إلا بإرادة رب العزة سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم ذكر ذلك في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (9)} [سُورة "الصف"].

والرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لما تكلم عن مستقبل هذا الدين، لم يقل إنه سيتم بعمله أو عمل الصحابة أو التابعين، ولكنه قال إن الله تعالى هو الذي سوف يتمه.. "والله ليُتِمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" [أخرجه البُخاري].

البعض يتأله - ولله المثل الأعلى - ولو عن دون قصد، بما يقول ويفعل، ويظن أن النجاح موكول إلى عمله.. وهنا يتضح لنا أن الأمر كله لله تعالى، وهو ما يجب أن نؤمن به كصفٍّ حركي لو أردنا النجاح، ولا نكون كما حذَّر النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" صحابته الأوائل عاتبًا عليهم: ولكنكم تستعجلون.. يقول تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [سُورة "الأنفال"].

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …