جاءت رسالة الإسلام للناس كافة، وبعث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم للعالمين رحمة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. (الأنبياء:107)، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ:28)، وقال عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (الأحزاب:45-46). فالإسلام جاء ليسع العالم كله بقيمه الرّوحية والفكرية وبرنامجه العملي على أرض الواقع، أي أنَّ طبيعة الإسلام جاءت لتخاطب الجميع، وتستمع إلى الجميع، وتتحاور مع الجميع، وتطلق طاقات الجميع، وتوظف الجميع .. وبمعنى آخر، فديننا الحنيف قائم على فكرة (الاستيعاب)، استيعاب كل البشر، من أجل إدماجهم في عمل الخير ومواجهة الفساد بكل أشكاله، عن طريق تحفيزهم روحيًّا وتنميتهم فكريًّا وإطلاق طاقاتهم وإبداعاتهم.
وهو دورٌ خطير تضطلع به الدّعوة الإسلامية في عملية الإصلاح والتغيير ومهمة كبيرة تنتظر الدعاة اليوم، ذلك أنَّ عقائدية التغيير الإسلامي، كما وصفها الشيخ فتحي يكن، يحتاج من الحركة أن تكون (صفوية) قيادة وطليعة، كما أنَّ الجذرية التغيير والشمولية يحتاجها إلى أن تكون (جماهيرية) كذلك.. فهذه الحركة إن بقيت تراوح مكانها بعد مرحلة الاصطفاء دون أن تخرج بمن اصطفتهم إلى دنيا الناس، ومن غير أن تدرّبهم على ذلك، أو تدفعهم إلى تجربة ذلك، أو تقودهم من خلال ذلك، فإنَّ مآلها إلى انعزال، وإن أثرها إلى انحسار، كما وأنَّ عناصرها (المحنطة) المستنكفة عن المخالطة الناس والاهتمام بشؤونهم وتبنى مشكلاتهم ورفع ظلامتهم ستصاب بإدبار قبل إقبال، وبتآكل بعد تكامل، لأنها تكون قد فقدت عنصر القوّة في معاركة (تصارع البقاء) وصدق الله تعالى حيث يقول: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم}..
وفي كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والدعاة" للأستاذ فتحي يكن، مزيد من التفصيل والتحليل والتوضيح، فالكتاب كما يقول مؤلفه يرحمه الله: ((محصلة معاناة)) طويلة وثمرة تجارب قاسية ومريرة عشتها أو عايشتها في واقع العمل الإسلامي في أكثر من قطر وأكثر من موقع..".
مع الكتاب:
أراد المؤلف رحمه الله بـ "الاستيعاب" قدرة الدعاة على اجتذاب الناس وربحهم على اختلاف عقولهم وأمزجتهم وطبقاتهم وثقافاتهم إلخ ... فالناس يختلفون اختلافاً نوعياً في كل شيء .. في نمط التفكير في مستوى العيش في مركب المزاج في معيار الذكاء وفي كافة القدرات الحسيَّة والنفسية".
ويضيف: "والداعية الناجح هو القادر على الإيغال والتأثير بدعوته وفكرته في الناس كل الناس على اختلاف مشاربهم وطبائعهم ومستوياتهم وعلى اجتذاب مساحة كبرى من الجماهير واستيعابها فكرياً وحركياً".
ويخلص الشيخ الدكتور يكن إلى أنَّ "الاستيعاب هو قدرة شخصية ومؤهلة خلية وصفة إيمانية ومنة ربانية تساعد الدعاة وتجعلهم منارات هدى في مجتمعاتهم وأقطاب رحى في مواطنهم يستقطبون الناس ويلتف من حولهم الناس". وبالتالي تعدّ المؤهل الأول والأهم في شخصية الداعية .. وبدونها لا يكون داعية ولا تكون دعوة..
الدعوة الغنية بالدعاة القادرين على اجتذاب الناس إلى الإسلام وإلى الحركة يصبح حظها من النجاح ومن تحقيق أهدافها قوياً إذا ما توفرت لها المناخات اللازمة
ويشدَّد المؤلف على العلاقة بين الاستيعاب وبين نجاح الدعوة، ويصفها بـ "علاقة جذرية" فلا نجاح بدون قدرة على الاستيعاب .. والدعوة الغنية بالدعاة القادرين على اجتذاب الناس إلى الإسلام وإلى الحركة يصبح حظها من النجاح ومن تحقيق أهدافها قوياً إذا ما توفرت لها المناخات اللازمة والشروط الأخرى.. عكس ذلك كذلك حيث إنَّ الدَّعوة الفقيرة بالدعاة القادرين على استيعاب من حولهم قد تبقى عقيمة محدودة الانتشار والآثار إلى أن يقبض الله لها رجالاً تتوافر لديهم أسباب الهداية والتأثير والاستيعاب أو يستبدلها بدعوة أخرى لا تكون مثلها وتلك سنة الله {ولن تجد لسنة الله تبديلاً}.
وتناول الشيخ فتحي يكن في كتابه نوعين من الاستيعاب، سمّى الأول: الاستيعاب الخارجي، أما الثاني فسمّاه الاستيعاب الداخلي.
في الاستيعاب الخارجي، ذكر فيه صفاتِ الداعية الناجح القادر على فن الاستيعاب، لأنَّ حمل الدَّعوة إلى النَّاس وجعلهم يؤمنون بها ويثقون ويتأثرون ومن ثم يلتحقون ويعملون ويجاهدون ويضحون عملية صعبة وشاقة وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات مختلفة.
فمن هذه الصفات والخصائص: الفقه في الدين، والصبر، والحلم والرفق، والتيسير لا التعسير، والتواضع وخفض الجناح، وطلاقة الوجه وطيب الكلام، والكرم والإنفاق على الناس، وخدمة الآخرين وقضاء حوائجهم.
أمَّا الاستيعاب الداخلي، فأراد به الشيخ فتحي يكن – رحمه الله - القدرة والأهلية على الاستيعاب ضمن الدَّعوة وفي صفوفها سواء كان ذلك من قبل القيادة أم من قبل الأفراد.
ويؤكّد على أهميته بالقول: "فإذا كان الاستيعاب الخارجي يحقّق اجتذاب النَّاس إلى الإسلام وإلى الدعوة والحركة وهو مهم، فإنَّ الاستيعاب الداخلي هو الذي يحقّق حسن الاستفادة من هؤلاء في عمل الدعوة والحركة".
ثمَّ تحدّث عن مراحلها، فالمرحلة الأولى من العمل أشبه باستخراج المعادن من الأرض وهو عمل (المناجم) والعاملين فيها، في حين تشبه المرحلة الثانية عملية تصنيع هذه المعادن والخامات وتحويلها عبر (المانع) إلى أدوات مختلفة.
إذا كان الاستيعاب الخارجي يحقّق اجتذاب النَّاس إلى الإسلام وإلى الدعوة والحركة، فإنَّ الاستيعاب الداخلي هو الذي يحقّق حسن الاستفادة من هؤلاء في عمل الدعوة والحركة
المرحلة الأولى: الاستيعاب العقائدي التربوي:
يقول الشيخ فتحي يكن: في هذه المرحلة يتعيَّن على الحركة أن تقوم بصياغة الوافدين إليها صياغة نوعية جيدة.. تنقيهم من كل الرواسب الماضية أفكاراً وممارسات وتغسل أدمغتهم وعقولهم مما ران عليها أو علق بها من معطيات غير إسلامية".
وعرض لعدد من القواعد التي بينتها السنة النبوية الشريفة في نطاق التكوين والتي من شأنها بناء الفرد بناء سليماً لا تفريط فيه ولا إفراط، كما من بينها: تغليب الإيجابية على السلبية، تغليب الاعتدال على التطرّف، القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، السنة وتغليب الأولوية في التكوين، التكوين من خلال القدرة..
المرحلة الثانية: الاستيعاب الحركي:
يقول الشيخ الدكتور رحمه الله: "والمقصود بالاستيعاب الحركي قدرة الحركة على استيعاب أفرداها والمنتظمين فيها والمنتمين إليها حركياً .. كما أنَّ المقصود منه كذلك استيعاب الحركة وأفرادها للشؤون والأصول والقواعد الحركية".
ووضع عدداً من الجوانب التي يجب أن تستوعبها الدعوة ويستوعبها الداعية في النطاق الحركي، منها: الاستيعاب الكامل والصحيح للأهداف والوسائل، الاستيعاب الكامل والصحيح للتنظيم وطبيعته، الاستيعاب الكامل لطبيعة الأصدقاء والأعداء،الاستيعاب الكامل لمختلف جوانب العمل وطبائعها واحتياجاتها..
ويختم الشيخ فتحي يكن بالقول: "إنَّ الدعوة حيال هذا الموضوع أمام خيارين لا ثالث لهما : الأوَّل: أن تبقى الدعوة دعوة لأصحابها قاصرة عليهم مهتمة بهم دون غيرهم، غير عابئة بالناس وبهدايتهم.. وعند ذلك تكون دعوة (صالحين) غير مصلحين، ودعوة (صفوة) لا جماهيرية.. وعليها أن تدرك إن كانت كذلك، أن نهجها هذا مخالف للإسلام ولطبيعة الدعوة، وأنَّ عملها هذا قد لا ينجيها ويعصمها من طغيان الجاهلية وطوفان الفساد ما دامت مستنكفة عن العمل لمواجهته ووقفه أو الحدّ منه.
الثاني: أن تكون الدعوة للناس كل الناس - المريض منهم قبل المعافى - والمنحرف فيهم قبل المستقيم - تحمل الهداية إلى الجميع وتحنو على الجميع، وتريد الخير للجميع، وتحرص على الاستفادة من كل طاقة وتوظيفها في خدمة الدَّعوة ومعركة الإسلام.
مع المؤلف:
. ولد في 9/2/1933م.
. حصل على دبلوم في الهندسة الكهربائية من كلية اللاسلكي المدني في بيروت. والدكتوراه شرف في الدراسات الاسلامية واللغة العربية.
. أسّس العمل الإسلامي في لبنان في الخمسينات. وأنشأ الجماعة الإسلامية في مطلع الستينات وتولى الأمانة العامة فيها حتّى العام 1992 حيث قدم استقالته منها بعد نجاحه في الانتخابات النيابية ليتفرّغ للعمل البرلماني.
. شارك في معظم المؤتمرات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم دوَّن معظمها في كتابه: "فقه السياحة في الإسلام ونماذج لرحلات دعوية قي أرض الله الواسعة".
. التقى العديد من الرؤساء العرب داعياَ وناصحاَ ومذكراَ.
. لديه العديد من المؤلفات التي أثرت مكتبة الدعوة الإسلامية، واستفاد منها جيل الصحوة والحركة الإسلامية، منها: ماذا يعني انتمائي للإسلام؟، قوارب النجاة في حياة الدعاة، المتساقطون على طريق الدعوة، مشكلات الدعوة والداعية، نحو حركة إسلامية عالمية واحدة، البيريسترويكا من منظور إسلامي، حركات ومذاهب في ميزان الإسلام، خصائص الشخصية الحركية للإخوان المسلمين، أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي، القضية الفلسطينية من منظور إسلامي، قطوف شائكة من حقل التجارب الإسلامية وغيرها..
. توفي – رحمه الله- يوم السبت 13/6/2009م. عن عمر ناهز الـ76 بعد صراع مع المرض.