إنما هي معركة أبدية!

الرئيسية » بصائر الفكر » إنما هي معركة أبدية!
الحركة الإسلامية24

لازلنا مع وقفاتنا مع الربيع العربي، والحركة الإسلامية، وسلوكها خلال فترة التمكين، ثم في مرحلة الانتكاس والارتكاس.

ولعله إن كان هناك وجه لفائدة في هذا الإطار، بالرغم من كل خسائر الميدان القائمة؛ أنها تفتح الباب أمام مراجعات هي من الضرورة بمكان، بل هي من قوانين الفعل الحركي في مثل هذه الحوادث الكِبار.

قبل الربيع العربي، والذي كانت ثوراته مفاجئة بالفعل؛ فلم تكن هناك فرصة لتأصيل الموقف في المنهج التربوي والفكري، وتحسين مستوى فهم الأفراد للمرحلة، وبالتالي متطلبات التعامل معها.

ولكن لابد من القول في هذا الموضع، أن هذه المشكلة ليست عَرَضًا عامًّا للحركة الإسلامية بشكل عام في المنطقة العربية؛ حيث إن هناك الكثير من المجموعات التي احتفظت بسلامة رؤيتها، وحسن تقييمها للأمور، وبالتالي ظهر هذا في برامجها التي استمرت في خططها، وما تتضمنه من أهداف مرحلية ومستقبلية.

وأهم هذه المجموعات حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين؛ حيث إن اتجاه الفعل مختلف تمامًا، وظل لحاله حتى بعد الربيع العربي، وهو بالأساس، مقاومة ومجاهدة العدو الصهيوني في فلسطين، وتحريرها باعتبارها وقفًا إسلاميًّا من النهر إلى البحر.

ولكن في مصر، وفي الأردن، وفي بلدان عربية أخرى، كانت المشكلة، والتي ظهرت بالأساس في أوساط الشباب، والذين لم يكونوا قد تشربوا بعد المنهج الحركي، وتحت وطأة ضرورات المرحلة في استغلال الموقف في التوسع الجماهيري، تم ضم المزيد من الشباب الذي كان محمَّلاً بأمراض المجتمع العادي الخارجي، والتي قامت الثورات لأجل معالجتها في الأساس.

في مرحلة التمكين القصيرة التي تلت نجاح الثورات العربية في الإطاحة ببعض رؤوس الأنظمة، كما في مصر وتونس واليمن، سقطت من البرامج التربوية والأوراق واللقاءات التنويرية بعض الأمور المهمة المتعلقة بسُنن النصر والتمكين، وكذلك المتعلقة بالقراءة السليمة لطبيعة الحدث المستجد.

الصراع بين الحق والباطل، إنما هو معركة أبدية ومستمرة، فلا توجد نقطة انتهائية له، إلا بنهاية الحياة الدنيا

اعتُبرت المرحلة لدى البعض، على أنها نقطة زمنية انتهائية، وهذا هو الخطأ الأول، والذي قاد بعد سلسلة الانقلابات السياسية والدستورية والعسكرية على شرعية الثورات في تونس ومصر، وكذلك في اليمن، إلى حمامات دم، وحروب لا تزال مشتعلة أوارها.

أولاً، هذه النظرة تخالف مجموعة من الحقائق القرآنية، وبالتالي القانون التي خلقها الله تعالى للتدافع وحفظ العمران، ومن بينها، أو من بين أهمها، أن الصراع بين الحق والباطل، إنما هو معركة أبدية ومستمرة، وأنه لا توجد نقطة انتهائية له، إلا بنهاية الحياة الدنيا، كما قرر القرآن الكريم.

البعض تأثر بثقافة الأفلام السينمائية الرديئة من عينة: "الشرير يظهر في أول الفيلم.. يسود ويظلم هذا وذاك.. الأخيار يتجمعون ويصدون.. الشرير يموت وينتصر الأخيار".. أو النهاية السعيدة المعروفة، بزواج البطل من البطلة.. هذه الصورة غير واقعية، ولا تحدث في عوائد التاريخ الكبرى؛ حيث إن للأمور حركيات وصيرورات أخرى شديدة التعقيد.

تبع هذا الخطأ المفاهيمي، حالة من التعصب غير المبرر للموقف الراهن، في ظل عدم فهم لحقيقة مهمة، وهو أن ما تمر به الحركة الإسلامية في مصر، وفي غيرها من بلدان عالمنا العربي والإسلامي من مِحَنٍ، في هذه المرحلة، أمر طبيعي جدًّا، ومعتاد، وسيتكرر حتى آخر الزمان.

وفي سُورة "الرعد" ما يؤكد ذلك، بل ويقول بأنه قانون إلهي مفروض من ربِّ العالمين، يقول تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [من الآية 17].
والآية شديدة الوضوح في مسألة أن صراع الحق والباطل، إنما هو ضمن قانون الثنائيات الذي خلق الله تعالى به الدنيا، فلكي يميز الطيب؛ فلابد من الخبيث، ولكي يميز الخير؛ فلا بد من الشر، ولمعرفة قيمة النور؛ لابد من الظلام، وهكذا.

وفي سُورة "الأنفال"، نجد أن المعنى يتكرر.. يقول عز وجل: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}.

ولقد قادت هذه الحالة من الخطأ المفاهيمي، إلى خلل في التحرك، وهذا الخلل –حتى من دون ما أحاط به من تصرفات خاطئة– هو في حد ذاته كارثة، وقاد إلى ما جرى من هزائم مرحلية، نطلق عليها مصطلح "خسائر الميدان".

فمن أقنع الشباب أن مجال الانتصار النهائي هو في هذه النقطة الزمنية؟!.. ولما جاء الفشل؛ تم تصويره على أنه ضياع للدين، وهذا خطأ، فأي فشل هو متوقع، وجزء من النضال ضد الظلم والفساد، ولو فشلْتُ الآن؛ فإن المفترض أن يتم التراجع التكتيكي والتحرُّف لفئة أو لقتال، والبدء من جديد.

استغل خصوم المشروع الإسلامي الحركي حالة الاشتباه والتلبيس، لأجل تشويه صورته، وإلباس الحق بالباطل، أمام الناس

في الإطار، تم تحويل الموقف إلى معارك شخصية، فهذا عزَّ عليه أصحابه الذين قُتلوا، وهذا عزَّ عليه ملكٌ فقده بالانقلابات العسكرية والسياسية، وهذا وهذا، من دون النظر إلى حقيقة الموقف وجوهر المصلحة العامة الذي ينبغي أن يوجه كل أخ مسلم.

خطورة هذا الكلام، هو أن عدم فهمه، أدى لسفك دماء مسلمة، وغير مسلمة من الأبرياء، ودفع المشروع الإسلامي ثمنها من صورته الذهنية، وجماهيريته، وجوهره الحضاري الذي يدعو إليه.

وكان لذلك الوضع دور في الفشل المرحلي الحالي نفسه، لأن غياب هذه الحقيقة، دفع إلى الدخول في صراعات خاسرة، كان من بين أهم سماتها وعوامل كونها خاسرة، أنها وقعت قبل الأوان، وتجاوزت قوانين الاستطاعة، وكذلك موازين القوى.

كما أن هذه الحالة من التخبط وعدم البصيرة، أدت إلى وقوع العديد من الأخطاء الجسيمة، بما في ذلك الخروج الكامل عن المنهج، بينما أمام الجمهور العادي، وأمام غير المسلمين؛ يعبر هؤلاء عن المنهج الإسلامي والمشروع الحضاري لهذا الدين.

أدى ذلك إلى سُنَّة مهمة من سُنن الصراع بين الحق والباطل، وهي سُنَّة الاشتباه والتلبيس؛ حيث استغل خصوم المشروع الإسلامي الحركي هذه الحالة، لأجل تشويه صورته، وإلباس الحق بالباطل، أمام الناس.

لابد من وضع الصف في حالة صبر، وفهم للقوانين التي تحكم التدافع ضد الظلم والفساد، وعلى رأسها أن الحق ثابت، وإلى انتصار

وهو موجود في القرآن الكريم.. يقول الله عز وجل: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [سُورة "الأنعام" - من الآية 112].
كان المفترض أن يكون رد الفعل هو التراجع التكتيكي، حتى ولو طويل المدى، لأجل إعادة بناء عناصر القوة الذاتية، وتنقية الصف من العناصر الهدامة، وإعادة ربطه بالمنهج الصحيح، قبل تهيئته لمعركة طويلة الأمد.

الرسالة الأهم المراد إيصالها في هذا الشأن، من جانب مسؤولي التربية وقادة الحركة، هو ضرورة وضع الصف في حالة صبر، وفهم القوانين التي تحكم التدافع ضد الظلم والفساد، وعلى رأسها أن الحق ثابت، وإلى انتصار، مهما طال الزمن، وأن الباطل إلى زوال، وأن ذلك حتميات ربانية لا راد لها.. يقول تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [سُورة "الأنبياء" - الآية 18].
وأخيرًا، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} [سُورة "سبأ"].

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …