المدح المحمود

الرئيسية » بصائر تربوية » المدح المحمود
hamas19

منهجنا التربوي يقول بكراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه الفتنة. والمبالغة فيه قد تفسد الرجل الممدوح وتقضي عليه، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً يكثرون من المدح فقال لأحدهم "ويحك قطعت عنق صاحبك" وقال لآخر "أهلكتم، أو قطعتم ظهر الرجل"، ونحن أحرص الناس على سلامة أعناق إخواننا وحماية ظهورهم، ومما يزيد في نفورنا من مشاهد المدح تلك الصورة النمطية المستقرة في أذهاننا وفيها رجال كذابون يلقون القصائد والخطب في حق حكام ظلمة لا تكاد تجد فيهم خيراً، لكن هؤلاء المدّاحين يرفعونهم إلى عليين وما هم لها بأهل.

وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عناهم بقوله "إذا رأيتم المدّاحين. فاحثوا في وجوههم التراب"، وجدير بالدعاة أن تغبّر أقدامهم وأجسادهم من التراب في ساحات الوغى، ونحن نربؤ بهم من موقف ذلّة تتلقى فيه وجوههم التراب. فهم أكرم عند الله من ذلك.

غير أن للمدح صوراً أخرى جائزة شرعاً ومقبولة منطقاً، وبعضها مطلوب ومحمود والذي يعنينا منها هو ما يرتبط بالعلاقات الداخلية في إطار الصف الإسلامي، وما يتفرع عنها من ألفاظ الثناء والإطراء والتكريم والتقدير، وقد رأينا لذلك أصلاً في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي نجد فيها العديد من المواقف التي يمتدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه وقد يكون المقصود فئة منهم أو شخصاً باسمه، وقد يأتي المدح في وجهه أو عند غيابه لكنه يصل إليه دون شك.

هناك العديد من المواقف التي يمتدح فيها النبي عليه السلام بعض أصحابه، وقد يأتي المدح في وجهه أو عند غيابه لكنه يصل إليه دون شك

وفي باب فضل الصحابة في كتب الحديث تجد الكثير من الأمثلة ونسوق لك بعضاً منها كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق: "أرجو أن تكون منهم" أي من الذين يُدعون من جميع أبواب الجنة لدخولها، وقال لعمر بن الخطاب: "ما رآك الشيطان سالكاً فجاً غير فجًك". ووصف أبا عبيدة بن الجراح بقوله "هذا أمين هذه الأمة". وقال عن ابن عمر. "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل"، وامتدح قتال خالد بن الوليد وأثنى على قدرته في الجهاد وسماه سيف الله المسلول، وقدّ دعا لأُبي بن كعب فقال له "ليهنك العلم أبا المنذر".

وليس بين هذه الأحاديث الصحيحة وكراهة المدح تعارض ولا تناقض، كما يفصّل الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم " قال العلماء: وطريق الجمع بينها أن النهي محمول على المجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة نشطة للخير والازدياد منه أو الدوام عليه أو الإقتداء به كان مستحباً والله أعلم".

وحماس اليوم صاحبة فضل وعنوان خير، نعتز برجالها ولا فخر، ولأنها رأس حربة الأمة في مواجهة الباطل وظلمه فإن الضغوط عليها كثيرة ومتعددة، يحاربها الأعداء بالقتل والسجن والتهجير، ويخاصمها جيران بالملاحقة والتضييق، ويعاندها بعض أبناء جلدتنا، ويحسدها آخرون، ويجتهد هؤلاء وغيرهم في تثبيط عزائم مجاهدي حماس والتقليل من شأنهم، ويعمدون إلى خطط وبرامج للتشويه والتشكيك في مواقف الحركة وأعمالها، ويسعون عبر وسائل إعلامهم لاستصغار قدرات رجالها، والتسفيه من إنجازاتها وإبداعاتها ونجاحاتها.

والدعاة بشر قد تؤثر فيهم دعاية التبخيس، وربما آذتهم سياسة التخذيل، وقد يزعج آذانهم قرع طبول معادية، أصواتها عالية وإن كانت فارغة، غرضها التشويش على العمل الحقيقي للحركة.

نفوس الأفراد والقيادات تحتاج إلى دعم وتثبيت، ووسائله متعددة ومنها المدح المحمود

كل ذلك قد يفعل الأفاعيل في قلوب أبناء الحركة على مستوى القيادات والأفراد على حد سواء، ولعل بعض الضيق يتسلل إلى النفوس، فيترك في الأذهان بعضاً من الشعور بالعجز وشيئاً من القناعة العقلية بالنقص، واستصغار الذات، والحقيقة غير ذلك. لكنها تحتاج إلى دعم وتثبيت ووسائله متعددة ومن ضمنها المدح المحمود، وهدفه تثبيت متردد أو تشجيع مبتدئ أو إقرار لمجاهد، أو دعم لقائد، أو تكريم لواعظ أو تقديم متحدث أو خطيب. وذلك كله ضمن قاعدة "لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل".

والمدح المحمود يأتي من الأمير يبثه في وجوه جنوده بحكمة ودراية، فيزرع الثقة في نفوسهم، وينبههم على فضائل الأعمال، ويفتح أمامهم ميداناً للمنافسة والمسابقة، وقد يكون المدح بين الأقران لا يرى الواحد منهم في تقدم أخيه وإبداعه تقليلاً من مكانته هو، بل يُسره ذلك ويتحدث به ويظهره إرغاماً للشيطان وإكراماً لأخيه ونحن لا ننكر مدحاً طيباً يوجه إلى القائد والمسؤول اعترافاً بفضله، ويجوز للمفضول أن يشد على يد شيخه وأن يثني على أميره، ورب كلمة رضى وقبول تعين قيادة على التقدم والتطور والاستمرار، ولعل قائلها لا يلقي لها بالاً ولا يتوقع لها أن تحدث ذلك الأثر الفاعل في نفس القائد أو السابق المتقدم.

وإذا أردنا للمدح أن يكون محموداً طيباً مفيداً وإيجابياً فلا بد له من ضوابط تنظمه ومعايير تنقيه وتصفيه من الشوائب وتحميه من الآثار السلبية التي قد ترافقه.

وتتقدم النية بحيث يشترط للمادح أن يقصد وجه الله تبارك وتعالى وليس تملقاً لأحد أو لاكتساب حظوة أو مكانة أو مصلحة شخصية، وليحذر من المبالغة في الكلمات والأوصاف، مع الابتعاد عن الإكثار والتكرار.

ولا يجوز بحال أن يستخدم الكذب أو الخداع، لأن في ذلك مخالفة شرعية واضحة، وأنّى لذلك أن يصاحبه الخير والفائدة. والأصل أن يغلب على ظنك أن المدح لا يفتن صاحبك، وأن تتوقع أنه لا يحب ذلك ولا يبحث عنه، وإياك أن تكون عوناً للشيطان على أخيك، وإن علمت أن فائدة المدح المحمود تتأتى على انفراد فذلك أفضل، وأدعى أن تتحقق الغاية منه.

قد يكون المدح بالكلمة الطيبة أو برسالة مكتوبة، ولا ينقص من فضله أن يتضمن شيئاً من النصيحة أو النقد أو التصويب أو الاقتراح دون شدة أو فظاظة

وقد يكون المدح بالكلمة الطيبة أو برسالة مكتوبة، ولا ينقص من فضله أن يتضمن شيئاً من النصيحة أو النقد أو التصويب أو الاقتراح دون شدة أو فظاظة.

وتجنب مقارنة أخيك بغيره تفضيلاً أو تجريحاً ما لم يكن في ذلك مصلحة ظاهرة.

لقد آن لنا أن نعرف قدر إخواننا وأن نسلط الضوء على مواضع الخير عندهم، لينتصب الدعاة أمام الناس أمثلة وقدوات وهذا لا يتعارض مع جلسات مناصحة ومكاشفة بل ووقفات محاسبة ومراجعة ومسائلة، مع إضمار الستر المغطى بمشاعر الأخوة في الله والمليئة بالحب والرفق.

والقضية كلها منظومة تربوية متكاملة يسند بعضها بعضاً. ولكل مقام مقال. والأمر يقدر بقدره وصاحب الخبرة يدرك خفايا المسألة، ومن تربى على أركان البيعة التي وضعها الإمام البنا يتقن أصول هذا الفن ويعرف فوائده ويتجنب مزالقه.

وقد اعتدنا في حماس على ذكر فضائل إخواننا الذين سبقونا إلى الله تعالى، لأننا نأمن عليهم الفتنة ونقلل من الأمر مع الأحياء وربما استنكر البعض ذلك، مع أن في المسألة متسع، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فنحن لا نبتدع، وعند صحابته الكرام الخبر اليقين.

إذن. تحرك ولا تتردد في دعم أخيك بكلمة طيبة صادقة. وإياك أن تحسده على نجاح أو إنجاز، فكل إبداع يصّب في صالح حماس. ثم توجه بالدعاء إلى الله لإخوانك بالتوفيق والارتقاء والقبول.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب في موقع بصائر، قيادي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وناطق باسمها. أسير فلسطيني محرر في صفقة وفاء الأحرار.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …