في العام 2009م تشرفتُ بلقاء اثنين من العرب المتضامنين مع غزة ضمن قوافل كسر الحصار التي وصل الكثير منها لتلمس الخبرة من أهلها في التضحية والصمود ومواجهة الاحتلال. ولأني فلسطيني فقد رحب بي "خالد" الجزائري و "محمود" الأردني بالأحضان، وفي غمرة فرحتهم بالوصول لغزة اندفع "خالد" بكل فخرٍ يتحدث عن مناقب مواطني هذا الشريط الساحلي الضيق، حتى قال: "إن أهل غزة هم صحابة هذا الزمان"، قاصداً بذلك أنهم أصحاب دين وخُلق طيب.
وقعت كلماتُ "خالد" على نفسي قويةً، حتى قلتُ في نفسي: "جيد أنكم لا تمكثون في غزة أكثر من ثلاثة أيام، ولو حدث ذلك لرأيتم (الصحابة) الذين تتحدثون عنهم على أصولهم!!"، لقد جالت تلك الأفكار في خاطري وأنا الذي أسكن في القطاع، وربما يتفق مع نظرتي هذه العديد من أهلها. لقد كانت وجهة نظري قاصرة في تلك الفترة، فأنا لم أختلط بأي أحد من شعوب الأرض باستثناء أهل المنطقة التي أسكن فيها، وفي العادة لن يتمكن الإنسان بالحكم على شيء من الأشياء دون مقارنته بشيء آخر.
في العام 2012م تغيرت هذه النظرة في عقلي حينما غادرت قطاع غزة لأول مرة في حياتي، بل وازدادت تغييراً حينما سافرتُ مرةً أخرى في ذات العام، فقد أدركتُ بأن "خالد" و "محمود" كانوا متواضعين للغاية في وصفهم لأهل غزة بأنهم "صحابة هذا الزمان"، وقد أيقنتُ ذلك بعدما تأكدتُ بأنهم ما كان لهم أن يتحدثوا بهذه الكلمات إلا بعد مقارنة شعوبهم وأخلاقها ودينها بأهالي القطاع المحاصر.
تأكيداً، فإن كلامي لن يُعجب البعض الذي لم تُشاهد عيناه بعدُ أهلاً وشعباً غير غزة، وسيبدأ يدلل على ما يقول بأن في هذه البقعة الطاهرة فتياتٌ غاب الحياء عنهن بلبسهن وأخلاقهن وتصرفاتهن، وهناك شبابٌ غفل عن طريق الإيمان، فتلقفه رفاق السوء وأوهموه بأن السعادة في سُبلهم التي ساروا عليها، فترك العبادات التي تميزه عن الكافر "عصياناً" لكن ليس "إجحاداً".
أنا أدرك ُ ذلك أيها السادة، وكُلي أمل بمشاهدة كل أبناء شعبي يسيرون في السبيل الذي شرعه الله لهم للخروج من الظلمات إلى النور، غير أن كثرة الجلد في النفس لن يولد فيها إلا الإحباط والإصرار على العناد، فرغم أعداد العُصاة الذين تنكبت بهم السُبل في بلادي إلا أنهم يبقوا فئة قليلة، الإيمان موجودٌ داخل نفوسهم، لكنه كالسكر الذي تضعه في وعاء الماء، فهو لن يُغير من طعم الماء إن لم تُحركه، فإن حركته قليلاً جعل من طعم الماء عذباً وحلواً، وهكذا الإيمان موجود في نفوس شباب غزة وفتياتها، لكنه بحاجة لمن يقوم بتحريكه قليلاً حتى نلمس مجتمعا أزعم بأنه سيكون من أفضل المجتمعات على وجه الأرض.
خلال الشهور القليلة الماضية انتشرت المُلتقيات الدعوية في الحارات والأحياء المختلفة بقطاع غزة، بل وصلت إلى المدارس الإعدادية والثانوية، وهي ملتقيات يستحق القائمون عليها كل التقدير والاحترام، فقد حملوا على عاتقهم وبجهودهم الخاصة عبء تذكير الناس بالله تبارك وتعالى في ظل غياب الدور الواضح من جهات الاختصاص للقيام بهذا الدور المهم.
ولأن كل من يعمل يُصيب ويخطئ، فقد أصاب هؤلاء الأعزاء في مواطن وأخطؤوا في مواطن أخرى، وهي طبيعة البشر السوية، أما الذي يُعتبر من الطبيعة غير السوية فهو انتقاد أفعال الخير بكليتها لمجرد الانتقاد وحب الظهور وتعزيز الأنا، وهذا الصنفُ من الناس لا أراه إلا من عُشاق "الأنا" ولا يبالون بمصالح المجتمع الذي يعيشون فيه.
وإن كنتُ أدعو لاستمرار مثل هذه المُلتقيات والاهتمام بها وتعزيزها ودعمها، ونشرها لتستهدف قطاعات وجهات مختلفة في كافة الأراضي الإسلامية، فإني أسجل النقاط التالية على تلك المُلتقيات حتى لا تنحرف عن الأهداف التي أُنشئت لأجلها:
1- تجاوز مسألة مطالبة الجمهور المستهدف من الصعود على منصات المُلتقيات، فمعرفة الشخص المذنب الذي أعلن "توبته" من قبل الناس قد يكون لها آثار نفسية خطيرة على نفسه في المستقبل، خاصةً وأننا في مجتمع ينتشر فيه القيل والقال، ومن تاب فلتكن توبته بين نفسه وبين ربه فقط.
2- اختيار المضمون المناسب للفئة المستهدفة، فشريحة المُسنين مثلاً تختلف عن طلبة المراحل الثانوية، وما يصلح للرجال لا ينفع مع النساء على إطلاقه، كما أن الذي يصلح في دول الخليج العربي ليس شرطاً مناسبة مضمونه لأهالي فلسطين.
3- الحرص خلال الحديث عن القضايا التي تشغل الجمهور من أولئك الذين تنكبوا السبيل واختيار الألفاظ والمصطلحات المناسبة، فليس من المقبول حديث القائمين على أحد الملتقيات عن موضوع "العادة السرية" و "الزنا" مدةً امتدت لأكثر من ثلث المُلتقى وتكرار هذه الألفاظ بشكلٍ كبير للغاية، وهو أمرٌ قد يُظهر غالبية المجتمع الفلسطيني وكأنهم "زناة"، وهذا أمرٌ مجافٍ للحقيقة وقد يُخلف آثاراً كبيرة على المجتمع وخطيرة كذلك، وإنما يكفي في بعض القضايا مجرد التعريض دون الإصرار على ذكر مصطلحات تقشعر منها الأبدان.
قال الحسن البصري رحمه الله: "يضيع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه"، ونحنُ لا نُريد إضاعة الدين والأخلاق والإسلام في بلادنا بأفعال تتخذ من الغلو أسلوباً لها في معالجة هذه القضايا والمسائل، أو تصرفات مستهترة ومُجافية لا تتحرك فتغير الواقع نحو الأفضل بإذن الله تعالى، إنما ديننا "الإسلام" الذي دعانا إليه الحبيب محمد "صلى الله عليه وسلم" فقد اعتمد الوسطية في كل مسائله وشؤونه.
_________
كاتب وإعلامي فلسطيني