يتوالى انعقاد المؤتمرات المخصصة لمحاربة أفكار الغلو والتطرف والعنف، وفي كل مرة يتداعى علماء وفقهاء ومفكرون لحضورها والمشاركة فيها، وتتنوع أوراق العمل المقدمة لتلك المؤتمرات، بين الحديث عن تاريخية الظاهرة، ومدى حضورها وفاعليتها في واقعنا المعاصر، وتأثيراتها السلبية على واقع التدين ومساراته في مختلف دول العالم.
لا تختلف غالب تلك المؤتمرات من حيث جوهرها ومضامينها ومعالجاتها، فهي تناقش أسباب الغلو والتطرف حيث يجتهد المؤتمرون في وضع حلول وتصورات لمحاصرة الظاهرة والتقليل من مفاسدها وشرورها، وما يميز مؤتمر عن آخر أشخاص المشاركين فيها، من ذوي الأسماء المعروفة المشهورة، وآخرين من المغمورين خاملي الذكر.
من الطبيعي أن تنفق الأموال الضخمة على تلك المؤتمرات، فهي تعقد غالبا في فنادق خمسة نجوم لمدة ثلاثة أيام، مع تحمل نفقات السفر والتنقل والإقامة والطعام للمشاركين، وقد تخصص مكافآت مالية مقابل البحوث وأوراق العمل المقدمة لتلك المؤتمرات.
وإذا ما تجاوزنا ذلك كله، فما هي جدوى تلك المؤتمرات؟ وما مدى مساهماتها في معالجة ظاهرة التطرف والعنف؟ وهل يمكن للتوصيات التي يوصى بها في نهاية كل مؤتمر أن ترى النور في عالم الناس، وتتحول إلى برامج عمل دائمة، وخطط عمل متواصلة؟.
من خلال المتابعة والمعايشة فإن غالب تلك المؤتمرات لا تعدو أن تكون فرصة للتعارف والسفر والتنقل (المجاني) للمشاركين والمدعوين، وربما تكون تلك هي الميزة الظاهرة لتلك المؤتمرات، أما من حيث تأثيراتها الفعلية في الجمهور المستهدف، فهي تبدأ في تلك القاعات الفخمة، وتنتهي هناك، ولا يمتد أثرها خارج تلك القاعات المغلقة على المشاركين والمدعوين إليها فحسب.
ماذا يجدي أن يتحدث القوم إلى أنفسهم؟ مما لا شك فيه أن كل المشاركين والمدعوين يقفون في الخندق المحارب لظاهرة التطرف والعنف، وهم بهذا لا يتجاوزن حد حديث الرجل إلى نفسه، ما يعني أن مناقشات تلك المؤتمرات وحواراتها تدور في حلقة المشاركين والمدعوين، ولن تصل بحال إلى الجمهور المستهدف الذي انعقدت تلك المؤتمرات طمعا في إحداث التغيير المرجو في البنى الفكرية لأولئك الغلاة والمتطرفين.
هل يحسب القائمون على كثير من تلك المؤتمرات المخصصة لمحاربة التطرف والعنف والتفجير الأعمى أنهم يحظون بقدر ولو قليل من الاحترام والتقدير والمصداقية عند أولئك الغلاة حتى تكون لتوجيهاتهم وانتقاداتهم أية أهمية تُذكر؟ ألا يعلم كثير من المشاركين في تلك المؤتمرات أنهم موضع اتهام عند كثير من الغلاة والمتطرفين؟ ما يعني بالضرورة أن كل ما يصدر عن مؤتمراتهم لا يمثل أية قيمة حقيقية عند الجمهور المستهدف، لأنهم يرونه متهافتا وساقطا.
حينما يتداعى المشاركون إلى المشاركة بحماس في تلك المؤتمرات، يوجهون سهام نقدهم الجارحة للغلاة والمتطرفين، وينقدوهم بشدة وقسوة، لكنهم في الوقت نفسه يلوذون بالصمت أمام غلو الأنظمة وبطشها وجبروتها في التعامل مع معارضيها السياسيين، فلماذا يشتد نكيرهم على الغلاة ويسكتون عن جرائم الطغاة؟ ألا يدركون أن مجرد السكوت يعتبر انحيازا يضعف موقفهم – حتى لو كان حقا وصوابا – في أوساط الغلاة؟.
يكفي أن يُقال أن العالم الفلاني، أو المفكر العلاني، من نجوم تلك المؤتمرات، شديد على الغلاة، وديع مع الطغاة، حتى تحرق أواراقه جميعها في تلك البيئات والأوساط، فلا تعد له قيمة علمية تُذكر، حتى لو كان شيخ الإسلام الأكبر، فإذا كانت صفة غالب المشاركين في تلك المؤتمرات بحسب تلك الصورة القاتمة، فمن المستبعد حقا أن يكون لأبحاثهم وأحاديثهم أي تأثير يُذكر.
وحتى تكون توجيهات العالم مؤثرة وقادرة على شق طريقها إلى عقول أولئك الغلاة والمتطرفين، فإن من ضرورات ما يلزمه أن يكون متحررا من إملاءات السلطان، يملك زمام أمره العلمي، ولديه الجرأة لقول كلمة الحق والصدع بها، فهو يقول ما يراه حقا ودينا يدين الله به، ولا يتكلم بما يريده السلطان ويفرضه عليه.
وفي الوقت نفسه يكون عارفا بمقولات الغلاة بخلفياتها وجذورها وأصولها، وطرق استدلالهم عليها، حتى يتمكن من محاورتهم بتمكن واقتدار، مع ضرورة المطالبة الحقيقية والجادة بفتح آفاق العمل الدعوي وقنواته لجميع الدعاة، والتخفيف من وطأة الفساد السياسي والاقتصادي المتفشي في أوساط الأنظمة ورجالاتها، حتى تستقيم المعادلة علميا وعمليا، ما يفضي إلى المساهمة الفاعلة في محاصرة تلك الظاهرة والتقليل من مفاسدها وشرورها.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- صحيفة السبيل