كلماتنا… معابر أو مقابر

الرئيسية » بصائر تربوية » كلماتنا… معابر أو مقابر
the_art_of_conversation12

لمّا قال الله تعالى منذ أزل رسالة الإسلام في أكثر من موقف ولأكثر من سبب: {قولٌ معروفٌ ومغفرة} و {قولوا للناس حسنا} أو {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها}. لم يكف الناس ذلك ليمرروا كلماتهم على مصفاة دقيقة قبل أن يلقوها على مسامع الناس، أو يرشقوهم بها أو حتى يقذفونها عليهم، لم يأبهوا - وحتى المسلمين منهم للأسف - لم يكفهم ليتأكدوا من أن الكلمة قد تكون سلّما يصعد عليه القائل قبل السامع، أو هاوية ترديه قبل غيره كذلك، حتى أن تلك الآيات ليست كل ما حوى القرآن الكريم من هديّ يخصّ الكلمات، وقد تلا ذلك ما تلاه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حين اعتبر الكلمة الطيبة صدقة!

أما وقد جاء العلم الحديث المادي الذي يعتمد اعتماداً كلياً على الإثبات بالتجارب والبراهين، جاء يُشرّح ذلك ويفصّل فيه، فقد أقر بوجود حقيقة علمية تنص على أن هناك جانباً في المخ يسمى القشرة المُخّيّة، تقوم هذه القشرة بعمليات معقدة تشمل التفكير والإدراك واللغة، وبالتالي فقد يكون هذا الجزء مسؤولاً بشكل مباشر عن التجارب والكلمات المؤلمة التي يتعرض لها الإنسان، وهو فقط من يمكنه أن يقوم بتحسين قدرة الإنسان على التكيف مع الآخرين، ودمج نفسه بالثقافات والأجناس والجماعات.

ثم أثبت العلمُ بناء على حقائق علمية مثبتة بتجارب بشرية استغرقت سنوات أن الألم الماديّ / الجسدي مهما بلغت شدّته فإنه لا يمكن بحالٍ أن يقارن بالألم الحسيّ / المعنوي، الذي غالباً ما يتسرب إلى النفس الإنسانية عن طريق القلب ومداخله، وبناءً عليه فإن للكلمة أثراً كبيراً على دماغ المتلقين، وقبلهم على القائل ذاته، وقد يستحيل أن يزول هذا الأثر أو يتبدّل.  

اللسان نقطة التقاء طريقين، أحدهما معبر للخير والجمال والنبل والقيم والمودة والفضيلة والرحمة والرقي والكرم، والآخر مقبرة لذلك كلّه

هذّب كل شيء مبتدئاً بلسانك:

فلنقل إن اللسان نقطة التقاء طريقين، أحدهما معبر للخير والجمال والنبل والقيم والمودة والفضيلة والرحمة والرقي والكرم، والآخر مقبرة لذلك كلّه ، وبالتأكيد فلن يختار إنسانٌ أن يغلق المعبر ويحفر بكلامه عميقاً في تراب المقبرة، بل سيختار الطريق الذي يسعده ويسعد غيره، وإن كان من عنوان شامل لذلك كله فليس هناك عنوان أقرب من (الرفق) الذي لا ينزع من شيء إلا شانه، كما لا يكون في شيء إلا زانه.

ويأتي تهذيب الإنسان للسانه في شكل ضبط له وتقنين لحركته، ولعل أهم الخطوات هي: ضبط النفس حال الغضب وعدم التحدث في ذروته، التأمل في الكلمات الطيبة والوقوف عندها وتوظيفها في كلماته، مناداة الآخرين بأجمل وأحلى الألقاب وأحبها للنفس، تجنّب الإساءة للآخرين أو رد الإساءة بمثلها، تكثيف قاموس الكلمات العذبة لديه، وتعبئته وإنعاشه بالتجديد دوما، وكذلك التفكير في كل كلمة قبل نطقها، وخفض الصوت عند الحديث ما استطاع.

لأن الكلمة ليست بالشيء الهيّن فإنها ترفع صاحبها قبل غيره درجات أو تهوي به دركات في الدنيا والآخرة على السواء، كانت صدقة، وكانت عقداً يبنى عليه الكثير

ولأن الكلمة ليست بالشيء الهيّن فإنها ترفع صاحبها قبل غيره درجات أو تهوي به دركات في الدنيا والآخرة على السواء، كانت صدقة، وكانت عقداً يبنى عليه الكثير، وكانت رسولاً لما في النفس، ومقياساً لمستوى التربية والأخلاق والثقافة والقيم والجمال والانسجام الذي يحظى به الفرد من ذلك كله، وإلا لما كانت الكلمة معجزة الله لخير أمة، ولما كانت أوسط الأمور في الأخذ بالأسباب، يقول العرب: "نطقك سعدك"، ويقولون: "لسانك حصانك" ويقولون: "الكلمة ميزان" وبناء على ذلك فإن الابتداء بتهذيب اللسان يهذب كل شيء لاحقاً، حتى إذا كان الإنسان يعيش حالة من صراع التناقضية،وإننا لو انتظرنا أن نكون مثاليين لنكتب عن الخير لما كتبنا عنه أبداً ، لعلّ الخير الذي ننويه بدعوتنا إليه يرتد علينا، كما أن علينا في هذه الزاوية مراعاة أن لكل شيء حدان وكذلك الكلام المعسول الذي قد يكون مخادعاً، لكن لن أفصّل هنا كثيراً اعتماداً على أن المؤمن كيّسٌ فطِن!

تأمل أثر القول الطيّب:

لقد امتلك العرب - بالذات - أعظم لغات الأرض على الإطلاق، وأجملها وأشملها، وأفصحها وأبلغها، وأكثرها رقياً، فكان ما كان من دلال اللغة وغنجها ورقتها، يتخلّق في رحم الأدب شعراً ونثراً ويولد على أيدي أهل البيان والبديع، حتى تنساب ناعمة إلى قلب المتلقي قبل أذنيه كأنها العسل يسيل أنهرا فيسقي عطش الروح للجمال والرقة واللطف، في هذا العالم المكتظ بالوجع والفرقة والحروب والظلم والخيانات والكذب.

لو جرّب كلّ منا الشعور بأثر كلماته واختبر وقعها على نفسه والتفكير بها بدون انفعال وتسرّع، لاختلفت كثير من النتائج

لست أريد أن أقيم دولة للشعر في لغة اتصال وتواصل العالم - مع أن ذلك أمر يستحق النظر فيه - بقدر ما أردت أن أؤكد على ما تفعله الكلمة الطيبة في نفوس الناس وعزائمهم وإرادتهم، فبالكلمة خُلِق الكون، وبالكلمة مرهون أمر تغييره، وإصلاحه، وما دامت الكلمة ستخرج لا محالة، وتصل إلى المتلقي فلتكن طيبة منتقاة بعناية ، فلا يعلم قائلها ما يمكن أن تفعله إن أصابت قلباً أرضه عطشى لجميل الكلم، وكلّما تضاءل إيمان الفرد بأثر الكلمة الطيبة فليتأمل قول الله تعالى: {وهُدوا إلى الطيب من القول} ويدقق في فكرة أن الكلمة الطيبة رزق وتوفيق وهداية وأن عكس ذلك هو الحرمان من هذا كله، وإن أبشع أشكال الفقر، هو انعدام الذوق والإحساس بالأشياء، والشعور بانفعالات المحيطين، والحرمان من لذة التأثير الإيجابي في الآخرين، والسعي في التنمية المتكاملة عبر كل الوسائل والطرق المتاحة.

لو جرّب كلّ منا الشعور بأثر كلماته التي يبعثرها على من حوله، واختبر وقعها على نفسه سواء بإرسالها إلى نفسه بطريقة ما، أو بالصراخ بها أمام المرآة أو بقراءتها والتفكير بها بدون انفعال وتسرّع، لاختلفت كثير من النتائج، وأرتقى الناس بالكلمة أكثر، فالانسجام مع الذات والتصالح معها قبل أي شيء يجعل الأمر أكثر سهولة، وفتح أبواب جانبية تصل بين ملكات الروح والعقل والجسد يضفي على تعاملات الإنسان مع الآخرين طابعاً من النبل والرقي فتصبح كلماته أشبه بمراهم الوجع ومهدئات مضادة لكل الهموم اليومية الروتينية.

ولذلك، فإن على من أراد أن يقول شيئاً، أن يقول خيراً أو ليصمت.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة فلسطينية من قطاع غزة، تحمل شهادة البكالوريوس في علوم المكتبات والمعلومات، وعدة شهادات معتمدة في اللغات والإعلام والتكنولوجيا. عملت مع عدة قنوات فضائية: الأقصى، القدس، الأونروا، الكتاب. وتعمل حالياً في مقابلة وتحرير المخطوطات، كتابة القصص والسيناريو، و التدريب على فنون الكتابة الإبداعية. كاتبة بشكل دائم لمجلة الشباب - قُطاع غزة، وموقع بصائر الإلكتروني. وعضو هيئة تحرير المجلة الرسمية لوزارة الثقافة بغزة - مجلة مدارات، وعضو المجلس الشوري الشبابي في الوزارة. صدر لها كتابان أدبيان: (وطن تدفأ بالقصيد - شعر) و (في ثنية ضفيرة - حكائيات ورسائل).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …