تختلف في مجتمعاتنا التصرفات وتتفاوت فيها الأخلاق متأثرة بالمسألة التربوية التي يعيشها الفرد، بالإضافة إلى البيئة المحيطة التي يدور فيها، ناهيك عن اكتساب بعضها من خلال المعايشة والرفقة والمصاحبة، وعلى اختلاف الأخلاق وتنوعها، تتنوع النفوس وتتعدد الطبائع، حتى في ثنايا المجتمع المغلق وداخل الصف الواحد والبيئة المشتركة.
إن من سنة الله في النفس البشرية أن تتأرجح أخلاقها بين الخير والشر، وبين السماحة والعدوان، وبين الحب والبغض لقوله تعالى: {ونفس وما سواها فألمها فجورها وتقواها}، ولقد ضرب لنا القرآن الكريم نموذجاً لطبيعة النفس البشرية المزدوجة المركبة من الخير والشر، وصوّر لنا مشهداً سلوكياً دفع بصاحبه لجريمة بشعة سفك فيها دم أخيه، وأباح لنفسه أن يقتله، إنه تصرف -قابيل- ابن آدم عليه السلام، حين أغراه الطموح، ودفعته الشهوة، وأعمت بصره تلك الرغبة الجامحة في السيطرة والتملك.
وكم بيننا اليوم من نماذج عدة قد تفوق -قابيل- بسلوكها، فكم في مؤسساتنا العامة، وفي محاضننا التربوية، بل وكم في مجتمعاتنا على امتدادها وتنوعها من شخصيات تبذل كل شيء وتقدم كل ما تستطيع وأكثر، في سبيل إقصاء إخوة لها أو تدميرهم والقضاء عليهم، ولا تحمل من الهم سوى اتهام الآخرين والتسلق على أكتافهم، حيث يفرحون لصعودهم درجة في سلم "النجاح" على أنقاض من حولهم، وكم فينا من أناس غلبت عليهم شهواتهم ونزواتهم وأهواؤهم، وكم بيننا من أفراد يطربون على تصفيق الجمهور وصيحاتهم، ويرقصون على دماء إخوتهم، وكم منا وحولنا من أناس يرتدون حلة جميلة حسنة ولكنها تُخبئ خلفها نفوساً مملوءة بالحقد والغيرة والتنافس الحاد، وقلوباً مشحونة بالرغبة الجامحة في النجاح، وقدرة هائلة في تسلق أكتاف الآخرين؛ طمعاً في القيادة والرياسة والتصدر.
كم في مجتمعاتنا على امتدادها وتنوعها من شخصيات تبذل كل شيء وتقدم كل ما تستطيع وأكثر، في سبيل إقصاء إخوة لها أو تدميرهم
إنّ جرائم قابيل فينا اليوم لا تقل بشاعة عن أول جريمة على هذه الدنيا، فالدم هو الدم والجريمة هي ذات الجريمة!، فهو دم المجتمع والدعوة، وهي الجرائم البشعة في صور اغتيال الشخصيات وإسقاطها، وقتل الوفاء في النفوس، وهدر حقوق الأخوة، إنها جرائم بشعة ترتكبها النفوس، وتصرفات خالطتها شوائب عكرت صفوها، وشوهت صورتها، وسلوكيات ألبس عليها الشيطان حلته، فخدعت وأوهمت.
نعم! كم فينا من قابيل؟ بل وكم صنعنا من قابيل؟ بتلك الاختلالات التي أصابت العملية التربوية، وبذلك القصور الذي أدى إلى ضعف المستوى التربوي في محاضننا ومجتمعاتنا، فالسكوت عن هذه الصفات السلبية المنبوذة تدمر بنية المجتمع وتضرب في تماسكه، وتخلق تشوهات خلقية وأخلاقية في نفوس الأفراد.
على المربين والمسؤولين الوقوف عند هذه الظاهرة والعمل على معالجتها؛ كي لا نبحر مبتعدين غارقين في متاهات السلوكيات المنفّرة التي تفت من تماسك المجتمع وترابطه
على المربين وأصحاب المسؤولية الوقوف عند هذه الظاهرة ومع هذه الصفات والعمل على معالجة الأمور السلبية الخاطئة، كي لا نبحر مبتعدين غارقين في متاهات السلوكيات المنفرة التي تفت من تماسك المجتمع وترابطه، ولأجل حماية النفوس من اضطراب سلوكي أو تشوه بنيوي فيها.
إن المسؤولية اليوم تقع عليهم لتحقيق ميثاق الأمن المجتمعي والدعوي "فتشخيص أخلاق الرجال واجب، لأن السلوكيات تتكرر في الأجيال، وتتجدد الأنماط النفسية حتى لكأن نسبا واحدا يجمعها"، وعليهم بخطوات المراجعة والاستدراك "بجولة إيمانية طويلة نصفّي فيها عقائدنا ونزيد عبادتنا، ونسمو بأخلاقنا وأذواقنا، ونثبت قلوبنا، ونجرد دعوتنا للآخرين على أساس عقائدي إيماني يزهد بنا معها الطامع والمستعجل، ومتقلب القلب".