أزمة “السجن الطوعي”

الرئيسية » بصائر الفكر » أزمة “السجن الطوعي”
o-BLACK-PERSON5

الصراع بين الحق والباطل دائم وحتمي ومتواصل. والغلبة فيه لأهل الحق دوماً. باستثناء جولات تعلو بها زمرة الباطل وتعربد. وتكيد فيها للمسلمين وتمكر، وتبطش وتغالي في الطغيان حين تعجزها الحجة والبرهان.

وتتنوع أشكال الظلم والاضطهاد ضد الدعاة. فيكون القتل والتدمير والإبعاد والملاحقة. ويأتي السجن في المقدمة، أسلوب قديم متجدد يتفنن المجرمون في تطويره، وقد بلغ الفساد بالشيطان وجنده أن خططوا لأسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر. قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}. فرد الله كيدهم إلى نحورهم.

لكن السجن كان من نصيب نبي الله يوسف من قبل، حتى لبث فيه بضع سنين ظلماً وعدواناً. ولما جاءته البشارة بالإفراج راح يسأل عن براءته قبل أن يخرج.

بينما رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن السجن ليس مكاناً للمؤمن فأشار في حديث له بأنه كان ليخرج مباشرة لو أنه كان في مكان يوسف عليه السلام، وذلك في الحديث المتفق عليه والذي يرويه أبو هريرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي" (متفق عليه).

وقد فتحت السجون على مصراعيها لرجال حماس منذ كانت الانطلاقة وما زالت، وتوالت الحملات ليل نهار حتى شملت الغالبية العظمى من جند حماس الذين وضعوا خلف القضبان زرافات وآحاداً، وفي حين حكم البعض بالسجن المؤبد فإن آخرين ترددوا على السجن مرات عديدة تجاوزت العشرين في بعض الحالات.

من غرائب الأمور أن يدفع أبناء حماس ثمن الحرب وثمن السلام المزعوم، حيث وضعت على معاصمهم القيود كلما اشتددت ضراوة المواجهة مع المحتل

ومن غرائب الأمور أن يدفع أبناء حماس ثمن الحرب وثمن السلام المزعوم، حيث وضعت على معاصمهم القيود كلما اشتددت ضراوة المواجهة مع المحتل، كما استهدفهم التنسيق الأمني المشؤوم مع كل جولة للمفاوضات العبثية وعند كل مؤتمر للتسوية يراد به تمرير مؤامرة، فيقدم رجال حماس قرابين من أجل ذلك.

وهمة الدعاة وتضحياتهم وصبرهم يدفعهم للاستجابة لنداء سيد قطب في سجنه:

أخي أنت حر وراء السدود     أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصماً        فماذا يضيرك كيد العبيد

ثم يرددون خلف الحادي يصّبر بعضهم بعضاً:

صبراً أخي لا تبتئس *** فالسجن ليس له اعتبار

والأسر من أجل الإله *** بشرعنا لهو الفخار

ويتواصون بالنصر القادم بعد المحنة بقولهم:

لا تظنوا السجن قهراً       رب سجن قاد نصراً

رأينا البعض يستهين بالاعتقال، ولا يبذل جهداً لتفاديه، ولو أمعن هؤلاء النظر في المسألة من جميع جوانبها، لرسمت أمامهم خيارات عديدة تستحق أن تدرس

وهذا كله حق وله شواهد صواب ولسنا له نعاند، لكن ذلك لا يجعل السجن أمنية ولا الأسر مطلباً. وقد رأينا البعض يستهين بالأمر، ولا يبذل جهداً لتفاديه،حتى كأنه يدخل السجن بقدميه طواعية! ولو أمعن هؤلاء النظر في المسألة من جميع جوانبها، لرأوا فيها مساحات فسيحة وربما رسمت أمامهم خيارات عديدة تستحق أن تدرس وأن تبحث، والخبير قادر على توقع السجن قبل حدوثه، وذلك عند اعتقال المقربين إليه، وعند وقوع تطور سياسي أو ميداني.

ومن يتابع إعلام العدو بدقة يوشك أن يسمع خبر الاعتقالات قبل تنفيذها بسويعات أو أيام، وذلك يعطيه فرصة للتصرف والاستعداد المسبق. وحري بالمجاهد أن يختار الجبال إن علم أنه ذاهب للسجن مدة تزيد عشر سنوات، وتجربتنا توصي بذلك عند الخمس وهي كثير، وما كان دون ذلك فالأمر مندوب في كل حين.

وحتى الاعتقال الإداري صار مجهول النهاية ويسهل أن يمتد لسنين متواصلة، وفي المراحل الحاسمة ربما كان الغياب لشهور له تأثير ملموس على مجريات الأحداث، وعند اشتداد المحنة والأزمة قد يرى البعض أن السجن أهون عليه، وقد يوسوس له الشيطان أن راحته في السجن وأن ذلك يعفيه من المسؤولية في زمن العواصف. والله أعلم بالنوايا وما تخفيه النفوس.

فلا تخدع نفسك فربما كان عزمك على تجنب الاعتقال هو القرار الأصعب والخيار الأشد الذي فيه الخير والثواب والمصلحة، وقد يقول البعض أن القضية بسيطة ولا تستحق معاناة حياة المطاردة، ونحن نقول أنه ما بين العيش في الجبال والاستسلام الطوعي للاعتقال درجات ومسافات طوال، والاختفاء واحد منها، والابتعاد عن البيت مؤقتاً حل مقبول.

وقد سمعنا أن بعض اليساريين قد لجؤوا لهذا الأمر واستقروا عليه سنوات عدة، والدعاة أولى بهذا وعندهم من الاستعداد النفسي ما يعينهم إذا اقتنعوا بالفكرة، وهم أهل لذلك رغم أن طلب العدو لهم أشد وأبلغ، والقائد أولى بالمسألة وأجدر بالمبادرة، وأقل ذلك أن يتجنب الاعتقال فجأة ليتمكن من ترتيب أوراقه وتنظيم الخطوط من بعده لئلا تنقطع، ولعله يتهيأ نفسياً وجسدياً لما هو قادم.

لاحظنا في مسيرة الصراع الطويلة مع العدو أن حملات الاعتقال الجماعية الواسعة يكون هدفها العدد والأرقام وليس التحديد والتخصيص

وفي عالم اليوم يسهل على المسؤول أن يمارس جانباً كبيراً من متابعاته ويؤدي معظم دوره وهو في حالة الاختفاء، ويعينه على ذلك التقدم العلمي والتطور الهائل في وسائل الاتصال، إذا أضيف لها حس أمني وحسن تصرف منه، وهو قادر على فعل ذلك حتى لو تعلق الأمر بمنصب رسمي خارج العمل الحركي المباشر، بينما مكثه في زنزانته يقيده حتى لا يكاد أن يقضى على دوره، ويصبح عبئاً محمولاً بعد أن كان راحلة تحمل الدعوة وهمومها.

وقد لاحظنا في مسيرة الصراع الطويلة مع العدو أن حملات الاعتقال الجماعية الواسعة يكون هدفها العدد والأرقام وليس التحديد والتخصيص، ورب مجاهد يبتعد عن الأنظار أياماً فينجو. وفي قصة الإبعاد إلى مرج الزهور مثال وعبرة.

وبعض الحملات تمر وتنقضي، وتمر أسبابها وتنتهي. فيبقى المأسور خلالها في القيد لا يعرف متى خروجه، وربما توقفت الملاحقة لمن اختار الاختفاء فيعود إلى طبيعته.

ولو أن كل مجاهد يختار الابتعاد عن السجن الطوعي. لارتبك السجان. ولدخل العدو في حيرة من أمره.

وليس أقل من إغاظة الظالم واستفزازه، واضطراره للعودة مرة بعد أخرى، ولعلك بذلك تمنعه أو تؤخره عن استهداف غيرك. فتقلل من إنجازاته وتصّعب عليه نجاحاته.

ولا يخفى على أحد ما في ذلك من الخير والفضل والبركة.

لو أن كل مجاهد يختار الابتعاد عن السجن الطوعي، لارتبك السجان، ولدخل العدو في حيرة من أمره

لا تستغرب لقولنا، ولا تظن نداءنا لك مبتدعاً، ففي الأولين لك قدوة. وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج بأمر الله من مكة إلى الصحراء في طريق هجرته حذراً من الوقوع بين يدي أعدائه، وفي بعث الرجيع حاصرت قوات كبيرة من المشركين عشرة من الصحابة يقودهم عاصم بن ثابت، ودعوهم للاستسلام قائلين: لكم العهد والميثاق إن نزلتهم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً. فأبى عاصم مذلة القيد وقاتل بضراوة حتى استشهد مع ستة من إخوانه، ثم بعثت قريش لاحقاً إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه –وكان قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر- فبعث الله مثل الظلّة من الزنابير فحمته من رسلهم. وكان عاصم أعطى الله عهداً ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً. ولم ينتقد الرسول صلى الله عليه وسلم فعلته وكان عمر بن الخطاب يمتدحه عليها. ولعل في سلوك عاصم وإخوانه تأصيل لتصرف جند حماس اليوم، خاصة ممن أصابوا دماً من عدوهم أو تركوا فيه جراحات، والأمور تقدر بقدرها، وللمجاهد أن يجتهد فيؤجر.

وكان الإمام أحمد بن حنبل –وهو من جرب السجن وخبر معاناته- يقول: "لا يعجبني المؤمن أن يسلم نفسه لعدوه وإن أدى إلى قتله". والمسألة قابلة للاختيار والترجيح وفق الظروف والمصلحة وحسن التقدير، وفي رأي الجماعة بركة، وفي المبادرة الواعية خير، والقضية تتعلق بمحاولة أسر المجاهد من قبل العدو أو غيره. فالمسألة سواء ما دمت مستهدفاً بسبب دينك وجهادك وانتمائك لحماس وانتسابك.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب في موقع بصائر، قيادي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وناطق باسمها. أسير فلسطيني محرر في صفقة وفاء الأحرار.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …