يستذكر الدكتور والباحث البوسنوي خير الدين هوجيتش (Hajrudin Hodžić) مع (بصائر) سنوات الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي قامت بها القوات الصربية ضد مسلمي البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي؛ تلك الجرائم التي لم تتوقف عند حدّ استهداف المدنيين من الأطفال والنساء، بل تعدّت إلى استهداف المعالم الإسلامية للمدن البوسنية، ولعلّ من أبرز تلك المعالم المساجد، وخصوصاً المساجد التاريخية.
يقول د. خير الدين لـ(بصائر): "في صباح السابع من شهر مايو عام 1993م سمع صوت انفجاريْن في مدينة بانيا لوكا، ثاني أكبر مدن البوسنة والهرسك. استهدف الانفجار الأول مسجد فرحت باشا الذي بُني في القرن السادس عشر، واستهدف الانفجار الثاني المسجد التاريخي الثاني المعروف باسم "أرناؤودييا".
ويضيف: "كان ذلك عملاً مخططاً له من السلطات الصربية في المدينة لأنه لم تكن فيها نشاطات عسكرية، وإنَّما كان الهدف طمس جميع معالم دالة على وجود المسلمين في هذه المدينة البوسنوية العريقة".
ويؤكّد الباحث البوسنوي أنَّ تفجير المساجد كان "شيئاً مخططاً له ليسهل تهجير المسلمين من مدنهم ولم تخل مدينة في البوسنة إلاّ وهدم فيها مسجد حتّى بلغ عدد المساجد التي هدمت في الحرب 614 مسجداً، هدم الصرب منها534 مسجداً والكروات 80 مسجداً، بينما لم يهدم المسلمون خلال الحرب كنيسة واحدة".
وعند سؤال (بصائر) عن طبيعة مدينة (بانيا لوكا) الجغرافية والسكانية، قال الدكتور خير الدين: "مدينة بانيا لوكا تقع شمال غربي البوسنة وهي عاصمة كيان صرب البوسنة الذين حصلوا بموجب اتفاقية السلام على كيان مستقل له حكومة وشرطة.عدد سكان المدينة ربع مليون نسمة. كان نسبة المسلمين فيها قبل الحرب 25 %، وبعد تهجيرهم تقلص عددهم إلى 10 % من مجموع السكان بعد أن قام الصرب بحملة تطهير عرقي في المدينة".
وأضاف "خلال الحرب تمَّ هدم جميع المساجد في المدينة البالغ عددهم 16 مسجداً وحوّلت الأماكن التي كانت في المساجد إلى الحدائق العامَّة أو الأسواق لبيع الحيوانات".
استهداف مسجد "فرحات باشا"
يقول د. خير الدين خوجيتش لـ(بصائر): "كان مسجد فرحت باشا رمزَ مدينة "بانيا لوكا" ومعلماً تاريخياً وسياحياً تشتهر به. وكان المسجد على قائمة معالم أثرية تابعة لليونسكو بوصفه نموذجاً فريداً لفن العمارة العثمانية. رغم كل ذلك عمدت السلطات الصربية في المدينة إلى وضع الكميات الكبيرة من المتفجرات وفجرته في السَّابع من شهر مايو عام 1993م".
ورداً على سؤال (بصائر) لماذا هذا الاستهداف؟ يوضح الباحث البوسنوي أنَّ تفجير المسجديْن في يوم واحد رسالة واضحة إلى العدد المتبقي من المسلمين بأنهم أشخاص غير مرغوب فيهم في المدينة وهذا ما دفع عدداً كبيراً للهجرة إلى الدول الغربية حيث يتواجدون إلى يومنا هذا.
إعادة بناء المسجد
يروي الدكتور خير الدين لـ(بصائر) أنَّه بعد انتهاء الحرب سعى مسلمو البوسنة بالتعاون مع المسلمين في شتى أنحاء العالم إلى إعادة بناء المساجد وبناء مساجد جديدة، حتّى أعادوا بناء كل المساجد المهدمة تقريباً. وخاصة تلك المساجد التي لها وزن تاريخي، مثل مسجد فرحات باشا.
ويضيف: "ففي عام 2001م، اجتمع عدد كبير من المسلمين والشخصيات العالمية لوضع حجر الأساس لإعادة بناء المسجد، ولكن هجم عليهم الشبان الصرب، وعلى الرغم من وجود شرطة تحمي الحاضرين قتلوا شخصاً وجرحوا العشرات الموجودين. كل ذلك لم يثن مسلمي تلك المدينة من إعادة بناء مسجد فرحات باشا وغيره من المساجد ما عدا المسجد المعروف باسم "أرناؤودييا" الذي يجري إعادة بنائه حالياً".
ويوضح الباحث البوسنوي أنَّه في إعادة بناء المسجد، استخدمت آلاف القطع من أنقاض المبنى الأصلي بعد انتشالها من نهر فرباس ومن موقع للنفايات حيث ألقى الصرب القطع الأصلية من المسجد بعد هدمه.
بعد 23 عاماً: فرحة ورسالة
بعد 23 عاماً من هدم القوات الصربية لمسجد "فرحات باشا" استطاع مسلمو البوسنة إعادة افتتاح المسجد، حيث يقول الدكتور خير الدين الذي كان حاضراً في حفل الافتتاح: " لقد شارك في الترميم أهالي المدينة وتبرعّت بالجزء الأكبر من النفقات الحكومة التركية برئاسة الأستاذ أحمد داود أوغلو الذي حضر حفل الافتتاح ووعد بحماية مسلمي البوسنة ودعم مشاريعهم، كما حضر الافتتاح عددٌ كبير من السياسيين المسلمين والصرب.
ويؤكّد الباحث البوسنوي لـ(بصائر) أنَّ مسلمي مدينة بانيا لوكا انتابهم شعور بالفرحة وارتياح كبير وسعادة غامرة بسبب إعادة بناء المسجد، لأنَّه دليل على وجود التسامح الديني بين الطوائف والأعراق المختلفة وإمكانية التعايش مع الغير ورأوا فيه ضمانة لأمنهم ومساواتهم مع غيرهم من سكان المدينة.
ويرى في إعادة افتتاح المسجد رسالة يوجهّها المسلمون والجماعة الإسلامية في البوسنة والهرسك "أنَّهم لن يتنازلوا عن شبر من أرض البوسنة وأنَّ هدم المساجد سيزيدهم إصراراً على تمسكهم بتعاليم دينهم وأنه لن ينجح من يحاول الإفساد بين أتباع الديانات على أرض البوسنة والهرسك".