كان إعلان حركة النهضة في الأيام القليلة الماضية عن قرارها الفصل بين الدعوي والسياسي، مثار جدل كبير، بين من يعتبره تجديداً للطرح السياسي الذي غاب عن الإسلاميين في الفترة الأخيرة -على حد تعبيرهم-، وبين من يعتبره ردّة على المنهج، وتجاوباً مع ما تريده العلمانية من تخلٍ عن الدين وحصره في دور العبادة والعمل الخيري، بعيداً عن ميدان السياسة.
كنت أتابع الجدل الدائر هنا وهناك، وأجد في الوقت نفسه أن النقاش حول هذا الأمر اتخذ بعض الطرق التي لا يصح أن ينعرج إليها، خصوصاً أن البعض اعتبروه تخلٍ عن الإسلام، وخروج عن الانتماء الحقيقي الذي ميّز الحركات الإسلامية وقدمت لأجله العديد من التضحيات، في حين سعى البعض إلى اعتباره قراراً عبقرياً وكالوا له المدح بطريقة تثير الاستغراب والدهشة!
محض تجربة
حتى نضع النقاط على الحروف، لابد من الإشارة إلى أن هذا الأمر هو محض اجتهاد لا أكثر، والاجتهاد قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً. وهذه المسألة تعتبر من المسائل التي يقبل فيها الأخذ والرد، وتتنوع حولها الطروحات والآراء، وليست مسألة ذات إجابة واحدة، إن خالفتها فإنك وقعت في المحظور والإثم.
الفصل بين الدعوي والسياسي، هو محض اجتهاد لا أكثر، والاجتهاد قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً
جوهر ما أرادته النهضة، هو أن يكون العمل السياسي في هيئة حزب سياسي حقيقي، يقدم الأطروحات السياسية المختلفة، ويشارك في البرلمان والتحالفات السياسية ، وفق برنامج إسلامي، لكنه في الوقت نفسه بعيد عن العمل الدعوي، القائم على الخطاب الديني الوعظي، والذي في أصله يستهدف جميع فئات المجتمع بمختلف تياراتهم وتوجهاتهم.
إن ما قامت به حركة النهضة، لم يكن جديداً إلا في الاسم، لأن الجوهر موجود من ذي قبل ، في المغرب، وفي الأردن، وكذلك سعت إليه حماس في فلسطين من خلال حزب الخلاص بسبب ظروف معينة واجهتها آنذاك.إذن هي محض تجربة، قد تكون مثالية في هذا البلد، وقد تكون غير ناجحة في بلد آخر ، والذي يحكم على ذلك هو مدى تحقق النتائج المرجوة على المجتمع، وعلى رأسها، حفظ الدين، وصيانة المجتمع وحمايته، ومنع سلب حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
لذا من الحنكة أن تدرس هذه التجربة في ظل الظروف الراهنة والمشهد السياسي الموجود. وليس تعميمها وفق تفاصيلها سبب لتقدم الحركة الإسلامية في المجتمع، وإنما حسن قراءة الواقع بشكل صحيح وموضوعي وشامل، هو الكفيل بالنجاح، بغض النظر تم فصل الدعوي عن السياسي أم لا.
وفي النهاية كل هذا يندرج تحت مفهوم السياسة، والتي يقصد بها كما يراها ابن عقيل رحمه الله: ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول –صلى الله عليه وسلم-، ولا نزل به وحي. (الطرق الحكمية/ ابن القيم).
العمل السياسي ليس له صورة محددة، فكل ما يجعل الناس أقرب إلى الصلاح، هو من صميم العمل السياسي، ولهذا فالتجديد فيه مقبول
وبمعنى آخر، فالعمل السياسي ليس له صورة محددة، فكل ما يجعل الناس أقرب إلى الصلاح، هو من صميم العمل السياسي. ولهذا فالتجديد فيه مقبول، واستحداث آليات جديدة في إدارته خصوصاً في معركة نهضة الشعوب وحريتها، أمر مطلوب، طالما أنه لا يعود على المقاصد العامة وثوابت الشريعة بالتعارض والنقض.
ولهذا يقول الفقيه المالكي ابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام: "والسياسة نوعان، سياسة ظالمة، فالشرع يحرمها. وسياسة عادلة، تخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيراً من المظالم، وتردع أهل الفساد، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية".
مراعاة المتغيرات
من أكثر الأمور التي تعتري العمل السياسي هو الكم الهائل من المتغيرات التي تواجهها أمتنا، والتي تحتاج إلى اجتهاد واقعي بعيد عن المثاليات، فصحيح أننا على ثقة بنصر الله وعونه، وأن الله سيتم أمر هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، إلا أن واحداً من أسباب النصر هو القدرة على إدارة التحديات والمتغيرات بما يحافظ على ديننا ويجلب الصلاح لأفراد أمتنا .
فالتقسيم السياسي للأمة الإسلامية، فرض أن يعمل الداعون إلى الله وفق اهتمامات أقطارهم، وصار الإصلاح يبدأ من النجاح في التجربة القُطرية، ناهيك عن وجود القوانين التي تتطلب تأصيلاً قانونياً للعمل السياسي داخل الدولة، ومنه العمل الحزبي.
وبما أن هذه القوانين مفروضة بغض النظر عن رضانا عنها، فإنه وجب العمل في ضوئها لجلب المصلحة، حتى يكون بمقدورنا تغييرها للأفضل. وهذا يتطلب المشاركة في السلطة وفق ما هو موجود، وإلا تبقى بعيداً لا دور لك سوى الدخول للسجون والتعرض للمحاكمات والملاحقات.
لا يفهم من كلامي أنني مع أن ينسلخ الإنسان عن انتمائه، إلا أن استغلال المساحات والحريات الموجودة في القوانين هو نوع من الحكمة في الدعوة
لا يفهم من كلامي أنني مع أن ينسلخ الإنسان عن انتمائه وحقيقته، إلا أن استغلال المساحات والحريات الموجودة في القوانين هو نوع من الحكمة في الدعوة والحفاظ على المقاصد العامة. ولهذا فالعمل الدعوي قد يكون له مظلات قانونية كثيرة، وهذا يختلف بحسب قوانين الدول، لكن بلا شك أن العمل النقابي، والخيري والتطوعي وغيره هو صورة من صور الدعوة إلى الخير والإصلاح بكافة أنواعه.
يقول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104]. فلم تحصر الآية الكريمة الطلب بجماعة واحدة، لأن كلمة أمة جاءت نكرة تفيد العموم، كما أن الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر، لا تشمل موضوع الصلاة والأخلاق الإسلامية فحسب، بل هي عامة، تشمل ما يتعلق بنظام الحكم وسياسات الدولة، التي مفاسدها أعم من أخطاء الأفراد وزلاتهم.
وربما في هذا حماية للدعوة من بطش الدولة حال رغبتها بذلك، إذ ربط كل الأمور الخيرية والدعوية بحزب واحد، يعني وقف كل الخير الناتج بجرة قلم ، أو حظر للعمل لهذا الحزب أو الجماعة، مما يعني مزيداً من الفساد والانتصار للمستبدين، وخسارة فادحة ليس على مستوى المعارضة السياسية، بل على جميع أفراد الأمة الذين حرموا من صور الخير المختلفة.
ملاحظات سريعة..
لابد أن أشير إلى أن الخلط بين الأمور الدعوية والسياسية في أي جماعة أو حزب، جعل بعض الخطابات تميل نحو العاطفة بعيداً عن العقلانية أحياناً، مثل وجوب التصويت للمرشح الإسلامي، رغم وجود إسلاميين أو أكفاء آخرين، وحرمة المشاركة في الترشح والانتخاب حال صدور قرار بمقاطعة الانتخابات، وأن ذلك صورة من صور المنكر والإثم. رغم أن قرار المشاركة والمقاطعة نتيجة قراءة لمشهد سياسي قد تكون خاطئة أحياناً كثيرة!
البعض جعل القرار السياسي قاطعاً لا يقبل الخلاف والتعدد، وكأنه حكم الله لا يجوز معارضته. وهذا مخالف لهدي المصطفى عليه السلام
فصار بعضنا يجعل القرار السياسي قاطعاً لا يقبل الخلاف والتعدد، وكأنه حكم الله لا يجوز معارضته. وهذا مخالف لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يوصي قادة الجيوش بقوله: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" (رواه مسلم).
ومما لا يخفى على أي أحد، أن بعض الناس يقبلون على الدعاة والعلماء غير المصنفين على تيار سياسي أو حزب ما، مع إيماني بحقهم بالانتماء الحزبي والعمل السياسي؛ لأنهم مواطنون. إلا أن العمل السياسي كثيراً ما يذهب بالصورة المثالية التي يطلبها الناس في العلماء، من خلال ضعف تواصلهم بالناس لانشغالهم، وقلة مصنفاتهم، ودخولهم المناكفات السياسية التي تذهب بشيء من قدرهم ومكانتهم. إن العالم ليس من حق جماعة أو حزب، بل هو ذخر للأمة بكافة أطيافها ، والأمة تحتاج إلى هؤلاء العلماء في توجيهها ونهضتها، لكن ليس بالضرورة أنه يجب عليهم أن ينخرطوا بالسياسة ويدخلوا قبة البرلمان على سبيل المثال، أو يكونوا على خصومة مع الأفراد في تيار إسلامي آخر.
في الختام.. قلتها سابقاً هي محض تجربة، قد تصيب وقد تخطئ، والأيام كفيلة بإظهار نجاح ذلك من عدمه، والاجتهاد السياسي لا ينتهي ولا يتوقف، والأمر يحتاج إلى تقييم ودراسة بعد فترة، لنحكم عليه بالصواب أو الخطأ.