سياسة الجدران العالية

الرئيسية » بأقلامكم » سياسة الجدران العالية

أقف كل يوم لأنظر إلى حجم ضخامته وقوته وصلابته واستصغر نفسي أمامه محدثا نفسي إلى متى سيبقى هذا الجدار يحيط بنا ويمنعنا ويقيد حركتنا ويسد طريقنا، إلى متى....؟ وهل كل الحروب السابقة لم تشبع جوع آكلي لحوم البشر ولم ترو نهَم مصاصي الدماء من مجرمي العالم؟ جدران تحيط بنا كالسوار في المعصم لا متنفس لنا إلا ما تبقى من أمل مجروح نداويه أحيانا بتراب أرضنا المباركة، وإرادة نمسح بها وجوهنا وأيدينا محافظين عليها من الاستهلاك لتمنحنا الصبر والقوة حتى يأتي أمر الله.

سنوات عجاف تمر ونمر معها بتعاقب ليلها ونهارها وتقلب أيامها وشهورها وسنواتها فهل كل هذا الزمن المحمول بالقسوة والمرارة لم يبلغ الثمن المطلوب؟ وهل كل هذا يوجب هذا الحصار الطويل الممتد إلى المجهول؟

حصد الحصار الكثير من الضحايا الذي فاق عددهم كبرى الحروب العالمية فمثلا حصار العراق الذي قضى فيه أكثر من مليون طفل عراقي جراء الحصار وعندما سُئلت وزيرة الخارجية الأمريكية حينها هل يستحق الأمر ذلك؟ أجابت وبكل ثقة ”نعم، الثمن يستحق ذلك”، وفي تصريح آخر حول تشديد العقوبات على العراق قالت: ”على العراقيين أن ينتظروا فترة طويلة، قبل أن يكون ممكنا النظر إليهم من جديد ومعاملتها إنسانيا كشأن الأمم والدول الأخرى”.

لقد أكل الحصار أجساد هؤلاء حتى نخر الجوع قوتهم إلى أن كانوا فريسة على موائد الموت البطيء، سلاح الحصار أنجز ما لم ينجزه قصف منهجي بأحدث وأخطر وأشرس وأشد أنواع القصف الجوي الصاروخي والبحري، وفي ظل الحصار واستبعاد مصدر الممانعة والرفض لسياسة هؤلاء، يبدو المحيط مهيئاً لتمرير مخططات الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ إلى أن تموت عزائم الأحرار.

كانت خاتمة الحصار دائماً ما تتوج بعمل وحراك عسكري وهي نتيجة حتمية إن لم يعلن الأحرار استسلامهم وخضوعهم، فأي حصار طال أم قصر لا بد وأن ينتهي بحرب تنهيه، فحصار العراق مثلا انتهى بحرب احتلالها والسيطرة عليها، والمشهد نفسه ينتظر قطاع غزة المحاصرة.

لقد قطع الاحتلال الصهيوني شوطا كبيرا في تدميره الصارخ من خلال الحصار الممتد لسنوات على قطاع غزة، وذلك من خلال شن حروب متتالية ارتكب فيها أبشع ألوان الإجرام والإرهاب في حق الإنسانية المحاصرة إلى تدمير البنية التحتية المادية التي من خلالها يستند أهل قطاع غزة في حياتهم إليها، وهو يسير إلى تدمير البنية التحية الإنسانية شيئا فشيئا إلى أن يصل إلى كلمة أطلقها الاحتلال كثيرا لإنهاء الحصار وهي ”التعاون" والكلمة تتناسب مع الطرح السياسي المنمق الذي يختزل فيه المحتل فرض سياسته الاحتلالية من خلال الإخضاع والإذلال والقهر، والتي يروج لها اليوم أصحاب المشروع التطبيعي والاستسلامي (أصحاب مشروع السلام الفلسطيني الإسرائيلي) والقبول بحل الدولتين والتطبيع والتعايش المشترك، فالاحتلال يرفض كل شعارات وحركات الرفض والمقاومة لسياسته.

إن تجربة الحصار التي مورست سابقا على الفلسطينيين واقصد هنا حصار منظمة التحرير آتت أكلها بولادة جيل يحمل مشروع التطبيع والتعايش المشترك مع الاحتلال إلى أن وصل إلى التعاون وهنا كانت المصيبة أن هناك قيادة تمارس التطبيع والتعاون في انفصام وانفصال عن الإرادة والقرار الشعبي لفلسطين ليكون هناك جسم من الفلسطينيين يقوم بدور الحارس الأمني للاحتلال.

الحصار يبدو بهذه الآثار والنتائج يحمل إلينا صورة ذهنية سوداوية استنتاجا للآثار التي أنتجها وصنعها سابقا من قتل للإنسان واحتلال للأوطان وسلب وسرق للخيرات والثروات واحتلال عقليا للإنسان الذي يؤمن بالتطبيع والتعايش والقبول بالمحتل، نعم نعترف بأن الحصار صنع هؤلاء ليكونوا ما يريد لكن بالمقابل الحصار يصنع من آلام وعذابات الشعوب أحرارا يؤمنون بها ويعملون لها منتفضين تارة تلو أخرى يمارسون فيها حقهم في رفض المحتل وأعوانه، ويبدعون في مقاومته بكافة أشكال المقاومة.

إن الثمن لهذا الحصار باهظ جدا على حسب وصف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أولبرايت وهو يستحق كل سنوات هذا الحصار وملايين الضحايا، طالما أن هناك إرادة إنسانية حرة ترفض الهيمنة والاحتلال وتقف سدا أمام سياسات قوى الحرب والإرهاب في العالم، حصار باهظ يستنزف القوة ويهدم العزائم ويسيطر على العقل ويهزم النفس إلا من وقف بمنهجية الرفض والمدافعة والمقاومة ولو بمطرقة يطرق بها جدران الحصار كل فينة وأخرى ويحدث خرقا هنا أو هناك في جسده، ويبدع في البحث عن كل سبيل للحياة والحرية، وهنا يكمن طول فترة الحصار، بأن المقاومة والرفض لا زال حيا باقيا رغم كل سنوات الحصار والتضييق والمنع، وإن سنوات الحصار لم تصنع الإنسان المروض المُدَجَن القابل بالمحتل المتعاون معه المستسلم له.

المراقب لحصار قطاع غزة يجد شعلة الأمل بالحرية لا زالت موقدة، ولا شك أن هذه الشعلة الملتهبة ما بقي فيها الحياة إلا بتضحيات جسام عظام من أهل قطاع غزة، وذلك من خلال ثالوث النصر، بقيادة رشيدة وإدارة حكيمة، ووحدة قواه التي توحدت على خيار المقاومة وإستراتيجية التحرير، وتماسك شعبي واحتضان لمقاومته حتى سرى روح المقاومة في كل بيت فلسطيني في قطاع غزة ليكون الجميع في خندق واحد موحد يرفض الحصار ويقاوم المحتل، لقد صنع الحصار شعبا يؤمن بحقه ويقاوم ويذود عن أرضه وعرضه ومقدساته.

إن كأس الموت الذي أراد الاحتلال الصهيوني أن يسقيه للشعب الفلسطيني قد سُقِيَ منه، فخلف الجدران جنود أحرار أبدعوا في إيلام العدو، وسقوه كأس الموت والحقوا به أشد العذاب حتى كان جنوده أضحوكة الزمان و دباباته ألعوبة بيد أطفال الحجارة.. مقاومة، روحها في كل بيت وفكرها في كل عقل لتجسد وعيا يحارب ويصد احتلال العقل الفلسطيني للقبول والخضوع للمحتل وإرادته.

إن سياسة الجدران العالية مهما بلغت في ارتفاعها وقسوتها لم ولن تبلغ يوما شمس حريتنا، فهل استطاعت جدران الحصار من أن تحجب عنا شروق الشمس وغروبها؟ أمل الحرية يبزغ مع إشراقة كل فجر يوم جديد، وأفول الحصار والظلم والاحتلال نراه يقينا وحقيقة كل يوم وقد آن أوان أفوله.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …