من بين أهم الجماليات التي اصطفى الله تعالى بها شهره الفضيل الذي تمر بنا نفحاته ونسماته اللطيفة هذه الأيام، هو التعدد.
فشهر رمضان يُعتبر "ظاهرة" في حد ذاته؛ يشمل الكثير والكثير من الأمور التي من شأنها أن تصلح من حال المسلم بالكامل متى توافق معها، وأفاد منها في جوانب الشهر الفضيل المختلفة.
فهناك العبادات بثوابها المُضاعف، وهناك موسم الخيرات والبر، وهناك صلة الرَّحِم، وتعضيد روح الجماعة، والكثير الكثير من الأمور.
ونقف هنا مع أحد أهم "المهام" التي اصطفى بها الله عز وجل هذا الشهر الفضيل، الذي قال القرآن الكريم، والرسول الكريم، محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، إن فيه ليلة خير من ألف شهر، وهي عملية ترميم النفس وإعادة بناء ما تهدم منها طيلة العام، في ظل زحام العمل، وتقلبات السياسة، وهموم المعيشة، ونزغات الشيطان الرجيم، وهوى النفس.
من أبرز المهام في رمضان ترميم النفس وإعادة بناء ما تهدم منها طيلة العام، في ظل زحام العمل، وتقلبات السياسة، وهموم المعيشة، ونزغات الشيطان الرجيم، وهوى النفس
ومن بين أهم مفردات هذه العملية الدقيقة من ترميم البدن والروح، هي إعادة العمران لعلاقة الإنسان بربه تبارك وتعالى، وهو ما يقود بدوره إلى الحديث عن فضيلة من أهم الفضائل التي نزلت الشريعة الإسلامية وتعاليمها لأجلها، وهي تغيير الإنسان، من سيء إلى أفضل، وتنقيته من الشر، وبناء عوامل الخيرية فيه، وبالذات في روحه وتفكيره.
وهذه المهمة ليست بالهينة؛ حيث هي من أعظم الأمور في حياة الإنسان، فهي ترتبط بتصحيح مسار سعيه في الحياة الدنيا، وقيادته إلى النجاة في الآخرة، من خلال القيام بما أوكله الله تعالى به على أكمل صورة، وهو عبادته، وإفراده بها، ونشر عقيدة التوحيد، وإعمار الأرض.
وثمَّة الكثير من المهام التي تنتظر كل مسلم مخلص يسعى إلى هدف الولادة من جديد خلال الشهر الفضيل.
وأول هذه الأمور، هو الالتزام بالعبادات، ما أمكن منها، ولكن بالشكل المتوازن الذي يمكن معه إنجاز باقي المهام المطلوبة للترميم البدني والنفسي والاجتماعي، وكذلك الخُلُقي.
ومن أهم العبادات التي لها هذا التأثير العظيم على النفس والروح، هي قراءة القرآن الكريم، وصلاة الليل بأنواعها المختلفة، التراويح، والتهجُّد، وخصوصًا ما كان منها في الثلث الأخير من الليل؛ حيث تكثر النفحات الربانية والعطايا الإلهية لعباده المتعبدين القانتين.
يقول الله تعالى في سُورة "يونس"، عن القرآن الكريم:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57)}.
أما في سُورة "الذاريات"، فيقول تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}.
ففي الآيات يذكر الله تعالى من سمات المتقين ممَّن سوف يدخلون الجنة، الكثير، ومن بينها الإحسان، ومن بينها قيام الليل، ومن بينها الاستغفار بالأسحار، والأخذ من أموالهم للمحتاجين.
في سُورة "السجدة"، يقول الله تعالى في ذات الأمر، عن صلاة الليل كأحد أهم سمات المؤمنين: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)}.
ولو تلمسنا هذه الآيات وغيرها؛ لوجدنا أن هناك سمات مهمةً يؤكد عليها الرحمن تبارك وتعالى، تعمل على تقوية علاقة الإنسان بربه وترميمها كأحسن ما يكون، وأهمها الخشية والخوف من الجليل، والتواضع لمن تواضعت لعظمته الجبال الشداد، والسماوات والأرض، ويسجد له الكون تحت الكرسي ويسجد له الكرسي بما حوى تحت العرش.
في هذه اللحظات، يجب أن يذلَّ الإنسان نفسه أمام خالقه عز وجل، ويحقِّر منها أمامه، استشعارًا لعظمته أولاً، وخجلاً مما أتاه من ذنوب وخطايا طيلة العام، وفي حياته
ففي هذه اللحظات، يجب أن يذلَّ الإنسان نفسه أمام خالقه عز وجل، ويحقِّر منها أمامه، استشعارًا لعظمته أولاً، وخجلاً مما أتاه من ذنوب وخطايا طيلة العام، وفي حياته، والإحساس بالندم عليها، وأنْ يتعاهد اللهَ عز وجل على التوبة الحقيقية.
وأيضًا، إن البكاء الكثير بين يدَيْ الله عز وجل، في قراءة القرآن، أو في الخلوات، أو في لحظات السجود؛ إنما هي من أجدى الأمور في شأن تطهير النفس، وإعادة ولادتها من جديد، وهذا أمر كان يدركه السابقون الصالحون.
وكان أبو بكر الصديق "رضي اللهُ عنه"، من أكثر الناس بكاءً، وكان أكثرهم خشية من الله، بالرغم من أنه كان من العشرة المبشرين بالجنَّة، وقال فيه الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وفي إيمانه ما قال.
كما أن شهر رمضان المبارك، فرصة للتجارة مع الله تعالى، وهي تجارة لا ولن تبور أبدًا؛ حيث كل شيء عنده مكتوب،
وهنا نعود إلى القرآن الكريم، ففي سُورة "فاطر"، يقول المولى عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29)}، في هذه الآية الكريمة منح الله تعالى قراءة القرآن، مع الصلاة، والإنفاق في سبيله، أعظم الأجر، ولا يمكن أن تكون هذه المكانة العظيمة التي أكدها الله تعالى لمن يقومون بذلك، إلا لمن كانت علاقته مع الله تعالى، عامرة، وما بينه وما بين الله، إلا الخير والإيمان والأمان.
ترميم الروح والنفس وتهذيبهما، والوصول إلى نقطة السكينة والاطمئنان بالله، والإيمان به، ليسا بالأمر الهين للإنسان، فهي هبةٌ عظمى، وهي منحة إلهية بدورها
وترميم الروح والنفس وتهذيبهما، والوصول إلى نقطة السكينة والاطمئنان بالله، والإيمان به، ليسا بالأمر الهين للإنسان، فهي هبةٌ عظمى، وهي منحة إلهية بدورها.
وفي القرآن الكريم، أكثر من آية، يقول فيها المولى تبارك وتعالى، أن السكينة هذه منحة، ومكافأة وجائزة.
فمتى استشعر الإنسان السكينة؛ فليعلم بأنه قد فاز بمغنمٍ عظيم، وأن الله تعالى قد رضي عنه، وأرضاه.
كل هذه الأمور، بمثابة فرصة –إذًا– لتحقيق غاية عظمى من غايات الشريعة الإسلامية بشكل عام، وهي التغيير، ولو لم يستفِد الإنسان من فرصة شهر رمضان بكل عطايا ومنح الله عز وجل، فيه، بهذه الصورة؛ فإنه لن يمكنه التغيير أبدًا.
بل إن ذلك هو صُلب رسالة الصيام، فيقول الله تعالى في سُورة "البقرة": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}، والتقوى هي الامتثال للأوامر الإلهية، واجتناب النواهي، وهذه هي أوضح معاني التغيير في نفس وسلوك الإنسان.
وتغيير المسلم لذاته في شهر رمضان، له العديد من الأبعاد، من بينها، مراجعة عقيدته وإيمانياته، ومراجعة أفكاره، وكما تقدم، ترميم النفس والروح، وكذلك مراجعة أموره الاجتماعية والسلوكية، والإنسان مطالَب بالتوازن في كل هذه المستويات، ومطالب بالتغيير فيها جميعًا.
وبعد؛ فهذه بعض من ملامح المطلوب من الإنسان في هذا الشهر الفضيل، لكي يعيد حساباته مع الدنيا، ومع ربه، وصدق القائل عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [سُورة "القصص"].