روي في الأثر أن رجلاً من بني إسرائيل يقال له "جريج" كان يصلي في صومعته فجاءته أمه فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته، فانصرفت، وتكرر هذا الأمر معه في اليوم الثاني والثالث. فما كان منها الا أن قالت: "اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات" . ترى ما الذي حصل؟! جاءت امرأة بغي وتعرضت له لتفتنه فأبى، فأتت راعياً وأمكنته من نفسها وحملت منه، فلما ولدت قالت هو ابن جريج، فأتوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فصلى ثم أتى الغلام وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي. فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني صومعتك من ذهب، فقال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا.
لو تأملنا هذه القصة لوجدنا أن جريجاً العابد كان مشغولاً بالصلاة والعبادة لله سبحانه وتعإلى، ولكن كان يجدر به أن يقطع عبادته أو أن يخففها حتى يلبي نداء أمه، فالأولى نافلة والثانية واجبة.
وإذا رأينا حال معظم الدعاة في هذه الأيام لوجدناهم يسيرون على نهج جريج وهم لا يعلمون، تراهم مشغولين هنا وهناك، بين هذه تارة وبين تلك تارة أخرى، لكن حقيقة هذه الانشغالات أنها لم تبنى على الفهم الصحيح لما هو مهم و ما هو أهم، ما الواجب فعله الآن و ما الواجب تركه (أو تأجيله).
فلو افترضنا أن والدة أحدهم -وهي التي عانت ما عانت في حمله وإرضاعه وتربيته حتى أصبح شاباً يافعاً– طلبت منه أن يرافقها إلى مكان معين، لوجدت الجواب السريع على لسانه و دون تردد "مشغول" لكن لو اتصل به صديقه وطلب منه الخروج معه لاحتساء فنجان من القهوة أو لتناول وجبة طعام، لوجدته انتفض مباشرة كأنما نشط من عقال.
ولو سألته عن سبب تقصيره في قراءة القرآن الكريم، كلام الله عز وجل، والمنهاج الرباني للسير في هذه الحياة، والغذاء الروحي الذي لا غنى عنه للمسلمين، لسمعت منه نفس الجواب "مشغول" ، ولكن لا مانع لديه من الانغماس في الروايات والقصص والتهامها الواحدة تلو الأخرى.
وهناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي لا حصر لها فهذا فيض من غيض، إلا أن أكبر آفة قد وقعنا في براثنها في وقتنا الحاضر وعلينا أن لا نغفل عنها و أن نحسن التعامل معها فهي وسائل التواصل الاجتماعي بشتى أشكالها، فما أن تقع عينك على خبر من هنا أو هناك حتى تجد نفسك قد رحلت من مكان إلى مكان، ومن عالم إلى آخر، ثم لا تلبث أن تستيقظ فجأة لتجد نفسك قد أمضيت وقتاً طويلاً لم يكن في الحسبان، و أن هذا ليس ما كنت تنوي الوصول إليه، وهذا ما يعرف اصطلاحا "بـالعمى الزمني" مع العلم أيضا أنها لم تكن على سلم أولوياتك أو مهامك، بل إنك انسقت لها و سلمت لها نفسك فتحكمت بك و بوقتك و غيرت من جدول أعمالك، لذا فأنت هنا مشغول ولكن بماذا يا ترى !!
إن ما يميز الدعاة عن غيرهم أنهم أصحاب رسالة، وليست أية رسالة، بل هي رسالة ربانية سامية، رسالة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لنشر دين الله تعالى ودعوة الناس اليه، فحري بهم أن يحرصوا كل الحرص على وقتهم واغتنامه فيما يفيد، فهو رأس مالهم وهو أغلى ما نملك في حياتنا، وكما قيل "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" وهذا لن يتسنى إلا من خلال الفهم الصحيح لسلم أولوياتنا وأعمالنا المنوطة بنا.