رجال حماس بجموعهم أخيار، وهم متفاوتون في ذلك. وفلسطين أرض مباركة غير أنها لا تقدس كل من سكنها. وإنما فضل الصالحين بأعمالهم. ولكل بقعة من هذه البلاد خصائص تميز أهلها، وظروف معيشة تؤثر في سلوكهم وأخلاقهم، ولأهل القرى طبائع ترسم ملامح شخصياتهم وتترك صبغتها على تصرفاتهم. فالأرض تعيش في قلوبهم، وهم يحفظون تفاصيل سهولها وجبالها. ويعرفون أسرارها وأخبارها، وخضرة الزرع تزيد من صفاء قلوبهم، وارتباطاتهم العائلية أشد وأوثق، وعندهم من البراءة والإخلاص والأصالة ما يجعل عطاءهم ممدوداً، ويملكون من الجرأة والشجاعة والصلابة ما يجعل جهادهم مشهوداً، وهم أقرب إلى قبول الحق واتباعه.
وكان الإمام البنا قد لاحظ ذلك فذكر أن من خصائص دعوة الإخوان سرعة الانتشار في القرى.
والأمر عند حماس كذلك، إذا أحسنا التخطيط واستخدمنا أفضل الأساليب وكانت منا متابعة واهتمام ورعاية، وقد سمعنا كثيراً أصواتاً معاتبة تتحدث عن تهميش وإهمال للريف وتقصير في حق أهله.
وليس المقام هنا للبحث عن الجهة المسئولة عن أي خلل وقع، وإن كانت التجربة تؤكد أن التقصير عادة يتوزع على أطراف عدة بنسب متفاوتة، وما هذه السطور إلا إشارات ولافتات في المسألة لعل داعية غيوراً يهتدي بها، ورب صاحب قرار حكيم يأخذ بأحسنها، فتنمو الحركة بين يديه مع نمو الزرع أمام ناظريه.
اللافتة الأولى عنوانها إشكالية الاتصال والخطوط التنظيمية. وهي من أكبر المعوقات أمام تقدم العمل وتطوره، وهي مسألة مرتبطة ببعد المسافات وضعف المواصلات، وفي كثير من الأحيان فإن اتصال القرية بالمركز في المدينة يمر عبر عدة مراحل مما يعيق العمل ويؤخره، وهذه مسألة ينبغي على الحركة أن تبذل فيها جهداً كبيراً لحلها، ومما يعين على ذلك تطور وسائل الاتصال بما فيها الإنترنت، وهذا لا يترك عذراً لأحد. أما التواصل المباشر فليس من الضرورة أن يكون عبر أعلى المستويات في الأمور اليومية. بل يمكن إنشاء رجال اتصال على طريقة ساعي البريد على أن يختار هؤلاء ممن تسهل حركتهم أو تربطهم صلة يومية طبيعية بالمركز.
واللافتة الثانية تفيد بضرورة توزيع القرى إلى زمر ومجموعات تشكل كل واحدة منها وحدة واحدة قريبة جغرافياً بحيث يسهل التواصل بينها، وهذا لا يمنع استمرار الاتصال البريدي لكل قرية بشكل مباشر مع المركز مهما كان حجمها وبعدها، ومن السلبيات المعروفة في هذا الميدان أن القرية المركزية في كل مجموعة تهتم بشؤونها ومشاكلها على حساب بقية القرى التابعة لها، وهذا خلل يعرفه كل مجرب، لذلك وجب التنبيه عليه ومعالجته بحكمة وحسن متابعة ومساءلة.
غالبية نشاط الحركة لا يحتاج إلى إذن خاص، ولا يلزمه مساعدة من جهة خارجية، ولا يحتاج إلى الكثير من التخطيط والانتظار
ولافتة ثالثة نغرسها في ساحة القرية، ننادي من خلالها دعاة المكان أنفسهم بأن يبادروا إلى ترتيب أمورهم على المستوى الداخلي دون التذرع بتقصير الآخرين ودون الاختفاء خلف عباءة الإهمال والتهميش. فقد نضجت الفكرة في قلوبكم من زمن ولستم تحتاجون إلى وصاية من أحد، كما أن غالبية نشاط الحركة لا يحتاج إلى إذن خاص، ولا يلزمه مساعدة من جهة خارجية، ولا يحتاج إلى الكثير من التخطيط والانتظار، فالمعالم العامة واضحة والسياسات بيّنة لا لبس فيها، وفي وسائل إعلام حماس اليوم إيضاح وتفسير. ولا يعقل بعد اليوم أن تخلو قرية ولو كانت صغيرة نائية من لجنة دعاة تقود الحركة وتشرف على عملها. ولن يكتمل الأمر إلا باجتماعات دورية وتخطيط حكيم وترتيب سليم، يصاحبه ثقة بالنفس واستغلال كل الطاقات، وتحريك لكل القدرات في المجالات الدعوية والفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية والاجتماعية. وغيرها مما لا خلاف على أهميته ولا جدال في آلياته ووسائله.
واللافتة الرابعة نرفعها في وجوه أهل الريف ونعلق عليها مرآة كبيرة، نتمنى فيها عليهم أن يُمعنوا النظر في أنفسهم فلا يستصغروها، وأن يدققوا في إمكانياتهم فلا يتقالّوها. وأن يفكروا في همتهم فيشعروا بعلوها وارتفاعها، وأن يعودوا إلى ذواتهم فيدركوا أنهم أحق بهذه الحركة وأهلها، وأن عزماتهم إن صحّت ستجعل منهم نموذجاً يحتذى ومثالاً يقتدى، وستكون تلك القرية معقلاً للحق ورصيداً للدعاة يتغنى بها الحداة، وفي كل ناحية من ريف فلسطين حكايات تؤكد قولنا وإنجازات تدعم رأينا.
الدنيا لا تعرف الفراغ فإن تراجع المصلحون تقدم المفسدون. وإن تأخر الأخيار نهض الأشرار ثم تبدأ حينها التأوهات وتعلو الصرخات. وهيهات أن ينفعنا ذلك... هيهات
والدنيا لا تعرف الفراغ فإن تراجع المصلحون تقدم المفسدون. وإن تأخر الأخيار نهض الأشرار ثم تبدأ حينها التأوهات وتعلو الصرخات. وهيهات أن ينفعنا ذلك... هيهات.
ولافتة خامسة في مركز المدينة، فلا تعفي الدعاة فيها من المسؤولية. فهم الأقدر على ترتيب الخطوط وتجميعها. وهم الأولى بإكمال الصورة وتنسيق ألوانها وتمييز أبعادها؛ لأن الأحداث الكبيرة تجري في رحابهم، ومستقر القرار بين أيديهم والأمانة الأكبر في أعناقهم، ووسائل الإعلام أقرب إليهم، فلا يقبل أن نستدعي أهل الريف عند الحاجة ثم نغفل عن قضاياهم بعد ذلك.
والتواصل المباشر يلغي الحواجز، وحسن الاستماع يعين على الإقناع، وتبادل الخبرات يسد الثغرات. والعدل في الإنفاق المالي يبارك الجهود ويطمئن القلوب، وفي المصارحة دواء وفي المكاشفة شفاء واستثمار طاقات الحركة أينما كانت أمر مطلوب. وإبراز الدعاة النجباء أمر مندوب، وهذا يتطلب استقصاء للكفاءات وبحثاً عن المواهب بطرق علمية إحصائية تتجاوز مسألة الاعتماد على القريب منا والفرق نراه بأعيننا. لأن كل إبداع مهدور يؤخرنا عن بلوغ الهدف، ورب داعية مميز فشلنا في اكتشافه أو عجزنا عن الوصول إليه أو تقاعسنا في تنميته، فبقي مغموراً في قريته الصغيرة، مع أن همته أعلى من ذلك وعزمه أشد.
علينا إيجاد لجان مهمتها معرفة الدعاة في كل مكان، والتوصية بتشغيل كل متفوق منهم في مكانه الصحيح، ترعاه عيون الدعوة ويعتني به قادتها ومفكروها
وقد بينت لنا الجامعات والسجون نماذج ما كنا لنعثر عليها من خلال العمل الروتيني المتعارف عليه، وهذا يلزمنا بإيجاد لجان مهمتها معرفة الدعاة في كل مكان، والتوصية بتشغيل كل متفوق منهم في مكانه الصحيح، ترعاه عيون الدعوة ويعتني به قادتها ومفكروها.
ولافتة سادسة تدعونا إلى الإنصاف والتوازن، بحيث لا تتيح للمركز أن يجذب إليه بقوته صفوة أهل الريف، ويفرغه من أعيانه ورموزه، والمسألة نسبية تقدر بقدرها. والتكامل أصل في دعوتنا. وكما أن للمركز إنجازات فإن للريف نفحات، والخير في حركتنا موفور، ونحن نتنافس في العطاء ونتسابق في البذل والفداء، وكما أن أكرمنا عند الله أتقانا، فإن أحبنا إلى قلوبنا أصدقنا لهجة، وأكثرنا ثباتاً وتضحية. وإخوتنا أكبر من أن تفرق بيننا المسافات، ونحن نفرح لنجاح دعوتنا في كل أرض، لا يحسد بعضنا بعضاً ولسنا نتنازع كما يفعل أهل الباطل، بل نحن نتعامل بعتاب المحبين. ونتغافر بتراحم الصالحين. ومنهاجنا أننا إخوان في الله تلاقينا يجمعنا الهدف الواحد والمصير الواحد.
واللافتة السابعة تلزمنا بمراجعة تنظيمية ولكن بروح أخوية، وتأمرنا بمحاسبة حركية ولكن بمنطلقات وحدوية، واللافتات يلزمها إضافات وشروحات مكانها محاضن الدعوة وسبيلها الكثير من الجلسات والندوات، وهدفها تدارك ما فات... والالتفات إلى ما هو آت.