المثقفون وأزمة التضليل والانحراف..

الرئيسية » بصائر الفكر » المثقفون وأزمة التضليل والانحراف..
CriticalThinking_300

لم يعد خافيا دور الإعلامين المثقفين والمفكرين في عصر الثورة الإعلامية في إمكانية تشكيل الرأي العام وفي نشر الأفكار بين الناس.

ولم يعد خافياً ما يمكن أن يصنعه الإعلام وأدواته المختلفة في خلق الأفكار ونشر المفاهيم بغض النظر عن أخلاقيتها أو عدمها، وبغض النظر عن طهارتها أو خستها. فهو يمتلك القدرة الهائلة في التأثير على عقول الناس، وخصوصا الأجيال الشابة الواعدة والصاعدة.

وفي الوقت نفسه، فإن للمثقفين والإعلاميين دور هام في حركة الشعوب والأمم "فالرسالة المحمدية" كانت بالأساس فكرة سليمة تبعها ملايين البشر عبر آلاف السنين، أدت إلى تغيير الأمة الإسلامية عن بكرة أبيها ونقل مسار الحياة فيها من واقع مظلم إلى واقع مشرق مختلف تماماً. والمثقفون والمتعلمون ساهموا في ترسيخ معالم هذه الفكرة في النفوس، وتبسيطها وشرحها، مما جعل الناس، يؤمنون بها، ويعتمدونها كقيمة هامة، لا مجال للاستغناء عنها، أو استبدالها.

كم من مثقف أو مفكر مأجور أو مزوّرٍ ضلّل ذاكرة الأجيال وأحدث انحرافاً في مسيرتها الحضارية

وبالتالي هنا تبرز أهمية وخطورة دور المثقف في التزامه بالحقيقة والموضوعية، فكم من مثقف أو مفكر مأجور أو مزوّرٍ ضلّل ذاكرة الأجيال وأحدث انحرافاً في مسيرتها الحضارية. فالمثقف والمفكر يمتلك من خلال رؤيته الفنية والفكرية، أقوى سلاح يهابه العدو وهو أن يكون صاحب موقف في المجتمع الذي يعيش فيه ويحيط به، ويتفاعل معه، ويتأثر به ويؤثر فيه، بحيث يكون وفيّاً لرسالته في التوجيه والتوعية.

لكن ما يثير الدهشة ويبعث على الاستغراب، بل يصعب تفسيره أو استيعابه أن ترى مثقفين ومفكرين وأدباء وإعلاميين يتغنون ليل نهار بالديموقراطية والحرية والليبرالية، وقد ملت الصحف من مقالاتهم، وعجت شاشات التلفاز بأصواتهم الداعية إلى الحرية والديموقراطية، والدعوة للقضاء على التخلف والرجعية، وقد أرهقوا المشاهد والمستمع من كثرة تخويفهم له من أعداء الديموقراطية والإنسانية، والذين لا يؤمنون بالشراكة ولا يتقبلون الآخر، وإذا بهم يؤيدون محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا، ويدعمون القتل والإرهاب والانقضاض على الخيار الديموقراطي، والإطاحة بالحكومة الشرعية المنتخبة من الشعب التركي في مشهد غير مفهوم.

إن أحداث تركيا الأخيرة جاءت لتحدث صدمة في وعي المواطن العربي، الذي لم ولن يجد تفسيراً منطقياً ومقبولاً لتأييد الكثير من الجماعات العلمانية واليسارية وبعض الإسلاميين في الوطن العربي للانقلاب الفاشل

إن أحداث تركيا الأخيرة جاءت لتحدث صدمة في وعي المواطن العربي، الذي لم ولن يجد تفسيراً منطقياً ومقبولاً أو حتى معقولاً لتأييد الكثير من الجماعات العلمانية واليسارية وبعض الإسلاميين في الوطن العربي للانقلاب الفاشل في تركيا، فعلى سبيل المثال، ليس مفهوما أن تقوم شخصيات أو أطراف من حركة فلسطينية كانت تتغنى ليل نهار بالشرعية وبأعداء الشرعية وإذ بها تؤيد الانقلاب، وتؤيد القتل والإرهاب والخراب.

إن تأييد بعض الجهات العلمانية واليسارية في العالم العربي ولاسيما في مصر وفلسطين للانقلاب والإرهاب الذي حدث في تركيا، يترك الباب مفتوحاً أمام العديد من الأسئلة.

أولها وأهمها: ما حجم التناقض التي تعيشه هذه الجماعات من خلال ما يظهر من تباين في مواقفها وممارستها العملية إزاء ما يجري حولها في هذا العالم وخصوصا ما يحيط بها؟

و ثانيها: ما حقيقة التزام هذه الحركات وهذه الجماعات بالديموقراطية؟ وهل هي تؤمن بها فقط إذا كانت بالسلطة وتكفر بها إذا كانت خارجها؟ أم أن الديموقراطية بالنسبة لها أصبحت شيئا من الماضي؛ لأنها فشلت فشلاً ذريعاً في إحداث أي تغيير في الواقع العربي منذ عشرات السنين!

وما الفرق بين هذه الجماعات وداعش الإرهابية التي تبرر القتل والإرهاب لتحقيق مصالحها؟ بل الظاهر أن داعش العلمانية واليسارية باتت منافسة بشكل قوي لداعش المنسوبة إلى التيار الإسلامي!

لقد أظهر العلمانيون واليساريون الأتراك مفهوماً إيجابياً وواقعياً للاختلاف والمعارضة، رغم كل الخلافات الأيديولوجية مع خصومهم الإسلامين. كما أظهر الإسلاميون في تركيا من قبل موقفاً أخلاقياً ومشرفًا يتمثل في تقديمهم مصلحة البلد على مصلحة الحزب، عندما انقلب العسكر على الراحل نجم الدين أربكان، فآثر الرحيل بهدوء؛ حقنا للدماء وحفظاً للمصلحة العليا للوطن.

إن أولى خطوات التحرر من المستعمر أو المحتل هي تحرير عقول الأمة من أفكار العبيد والمتناقضين مع ذاتهم والمنفصمين عن عقولهم وقلوبهم وشعبهم ووطنهم وقضيتهم

لذا يبدو أن أزمة أمتنا العربية تكمن في بعض مثقفيها ومفكريها ومنظريها وإعلاميها، المأجورين والانتهازيين والعبيد، وإن أولى خطوات التحرر من المستعمر أو المحتل هي تحرير عقول الأمة من أفكار العبيد والمتناقضين مع ذاتهم والمنفصمين عن عقولهم وقلوبهم وشعبهم ووطنهم وقضيتهم.

إن المثقف الحر و الملتزم هو الضميرُ الحيّ الذي يعبر عن آلام وأحاسيس ومشاعر وطموحات الشعب الذي ينتمي إليه، وللأمة التي ينتمي إليها ويعتز بها. إن أمتنا العربية أحوج ما تكون لسماع أصوات المثقفين الأحرار ورؤية كتاباتهم، التي توجه المجتمع نحو معاني وقيم الحرية، الحرية الشاملة التي لا تتجزّأ ولا تنقسم، من أجل إيجاد المواطن الواعي المدركِ لحقوقه وواجباته في كل مكان نحو المجتمع والوطن.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وباحث فلسطيني في الشؤون السياسية والصهيونية، ومهتم بشؤون العلاقات التركية الصهيونية، يحمل الماجستير في الدراسات الإقليمية، ومدير مركز الحوار والفكر للدراسات في مدينة الخليل.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …