تحولات النهضة..وأزمة التنميط والتعميم في العمل السياسي الإسلامي

الرئيسية » بصائر الفكر » تحولات النهضة..وأزمة التنميط والتعميم في العمل السياسي الإسلامي
islam28

جاءت المقررات التي أعلنتها حركة النهضة الإسلامية التونسية في مؤتمرها العاشر الذي عُقِد في العشرين من مايو الماضي، لتفتح المجال واسعًا أمام جدل لن ينتهي.

ويبدو أن هذا الجدل لن ينتهي في القريب، في ظل ظروف الأزمة الراهنة التي تواجهها جماعات الإسلام السياسي الصحوي، وفي القلب منها "الإخوان المسلمون" في إطار تفاعلات الربيع العربي، وارتكاسات ما يُعرَف بالثورة المضادة.

تتلخص هذه الأزمات، والتي ضربت بأطنابها في صميم التنظيمات الإدارية، والمناهج الفكرية، حول الأولويات في الوقت الراهن؛ هل للتصدي لعنف الأنظمة، واستعادة الثورة، أم التفرغ وإعادة البناء، أم التماهي للحفاظ مع ما تبقى، وكذلك حول الأدوات؛ هل يتم الرد على العنف بالعنف المسلح، أم الاستمرار في العمل الاحتجاجي السلمي في الشارع.

قادت هذه الأزمات، إلى اختلافات وصلت إلى مستوى الخلافات والانشقاقات، بل والفُجْر في الخصومة في بعض الأحيان، وإلى انفضاض شريحة واسعة نسبيًّا من الشباب، ولاسيما بين المسلمين المقيمين في الغرب، عن التيار الصحوي القائم في دعوته على الإصلاح والتجديد، إلى تيار السلفية الجهادية.

وبالتالي؛ فإنه، وفي ظل هذه الحالة من التشرذم على مستوى الصف والقيادات، وعدم قدرة الأطر التربوية، بمعناها التنظيمي على القيام بواجباتها في التنوير ولملمة الأشتات؛ فكان من الطبيعي أن يكون الخلاف والجدل هما سيد الموقف في تقييم الخطوات والمواقف الأخيرة، التي تبنتها النهضة التونسية، والتي كانت صادمة في حقيقة الأمر للبعض.

الأفضل من الحديث عن فصل الدعوي عن السياسة "القذرة"، هو أن نلتمس إصلاح السياسة، وتحقيق النزاهة فيها، من خلال إصلاح القاعدة التي تنطلق منها

ولعل أهم ما كان صادمًا في المقولات والقرارات الرئيسية لمؤتمر النهضة، هو إعلان زعيم حزب النهضة، راشد الغنوشي عن فصل العمل السياسي للحركة عن المساجد، والقول بتجنيب المنابر الدينية أي جدل سياسي وصفه بأنه قد لا يليق بقدسية الدين.

والأجدى كان بدلاً من الحديث عن فصل الدعوي عن السياسة "القذرة"، هو أن نلتمس إصلاح السياسة، وتحقيق النزاهة فيها، من خلال إصلاح القاعدة التي تنطلق منها، سواء على مستوى الأنظمة، أو المنابر، مثل الأحزاب، وصولاً إلى الممارسة السياسية والاجتماعية العامة.

وبالرغم، من أنه تبقى أن هناك – كما تقدم – خلافات في الإطار الموضوعي، في الموقف والرأي مع ما قامت به النهضة، وهو أمرٌ طبيعي في عالم السياسة وفي أي شيء في المجال الإنساني بشكل عام؛ حيث توجد قاعدة راسخة تنص على أنه "لا يوجد إجماع في الاجتماع"؛ إلا أنه نقف عند نقطة بعينها، كانت هي عين الخطأ في الجدل الذي ثار حول قرارات ومواقف النهضة.

بداية؛ لا يمكن القول إن هناك "ممثل شرعي ووحيد" للإسلام السياسي، ولا لأي تيار سياسي آخر؛ حيث الأساس هو التنوع، وهو قانون عمراني تكلم عنه القرآن الكريم بشكل لا لبس فيه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [سورة "هود"].

فالبعض يطرح هذا الكلام بصورة مختلفة، وتتعلق بحدود المواءمة السياسية؛ حيث إن للمواءمة السياسية، وقضية المصالح المرسلة وضرورة الحفاظ عليها، حدود معينة.

وفي إطار الممارسة السياسية العامة؛ فإن موضوع المواءمة والتفاوض، يختلف باختلاف الموقف؛ فقد تكون مصلحة مرسلة يتم التفاوض عليها، وقد تكون مسعى لإحداث مصالحة، أو ترتيب أوضاع سياسية معينة خلال أوقات أزمات، أو خلال أوقات السلم أو خلال وقت الحرب.

ولكن مهما كان؛ فالمبدأ العام هو أنه يجب أن يكون الإطار الشرعي، هو الضابط الأساس لهذه العملية، وما يتم طرحه خلالها من مبادرات ومبادلات تتم بالتراضي أو تحت ضغط فارق القوة أو واقع أزمة ما.

لا ينبغي أن يكون ما قامت به النهضة بمثابة "نموذج يحتذى"، على الأقل تبعًا لمبدأ خصوصية الحالة من بلد لآخر

وبالتالي؛ فإنه لا ينبغي أن يكون ما قامت به النهضة بمثابة "نموذج يحتذى"، على الأقل تبعًا لمبدأ خصوصية الحالة من بلد لآخر، كما سوف يَرِد.
الأمر الآخر، وهو – المعادل العكسي لقبول البعض غير الرشيد للنموذج الذي طرحته التحولات الأخيرة للنهضة – أنه لا يوجد صواب مطلق، وكلٌّ يؤخذ ويُردُّ عليه.
فحتى الرسول الكريم "صلى اللهُ عليه وسلَّم"، في حياته، كانت بعض قراراته – باستثناء ما كان يرتبط بأوامر ونواهي القرآن الكريم، وما يأمره به ربه بشكل مباشر – محل مراجعة من بعض الصحابة الكرام "رضوان الله تعالى عليهم"، ونزل على موقفهم حتى في أحرج لحظات الدعوة والدولة، ومن بينها أوقات حرب.

ولذلك؛ فإنه لم يكن ينبغي الرد على ما قامت به النهضة، بالنقض المطلق، والاتهامات التي وصلت إلى درجة "التخوين"، بل والتكفير، باعتبار أن إخراج المسجد والدعوة من معادلة العمل السياسي الإسلامي، يعني إنكار بعض ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفق الممارسة النبوية، وما استُقرَّ عليه في تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة.

هذا التشويش الذي خلقته أزمات المرحلة، وضعف قدرة الأطر التربوية – كما تقدم – على الإجابة على مختلف التساؤلات، قاد إلى خطأ قياس مهم وقع فيه بعض المنبهرين بنموذج الغنوشي والنهضة، وهو الدعوة إلى تعميم النموذج على مختلف الأحزاب والحركات الإسلامية الأخرى، وبالتحديد إخوان مصر، باعتبار أن ذلك سوف يكون أحد أهم وسائل إخراجهم من أزمتهم الراهنة.

ويستند هؤلاء إلى تجربة أخرى ناجحة لأحزاب إسلامية، أو ذات جذور إسلامية، مثل العدالة والتنمية في تركيا، وسمِّيه في المغرب؛ حيث استطاع الحزبان، من خلال سياسات بعينها، انبثقت بالأساس من طبيعة المجتمعات التي نشأت وتتحرك فيها، تأسيس تجارب حكم ناجحة ومستمرة، وتجاوز مشكلات سياسية وأمنية عدة، ولاسيما في حالة تركيا المحاطة بمستوىً غير مسبوق من الأزمات الأمنية والسياسية، وبؤر الحروب الصريحة والخفية، التي تستهدف تركيا والتجربة ذاتها.

أصحاب هذا الموقف لجؤوا إلى التنميط، وهو أمر غير سليم في التحليل السياسي؛ حيث لكل حالة سياقها الخاص، ولا يجور إطلاق أحكام عامة على ظواهر تخضع في الكثير من صيروراتها لخصوصية حالة المجتمعات.

في الإطار، تجاوز هؤلاء عن بعض الأمور، أهمها، لماذا نجح مَن نجح، ومدى ارتباط أصحاب هذه التجارب الناجحة بسياقات فكرية ومفاهيمية، والأهم، سياسية ومجتمعية تختلف من مجتمع لآخر.

كما يبدو خطأ القياس في أمر آخر؛ فعلى أبسط تقدير؛ ما علاقة الأزمة التي يواجهها الإخوان المسلمون في مصر، سواء مع الدولة أو على المستوى الداخلي للجماعة نفسها، بقضية فصل الدعوي عن السياسي؟!..

هذا في علم السياسة؛ يُسمَّى – بجانب كونه خطأ قياس – بخلط الأوراق؛ حيث إن الذين قدموا هذا الطرح، كانوا يريدون إحراج القيادات الحالية للجماعة، بسبب الخلافات السابق الإشارة إليها، بشأن الأولويات والأدوات، والموقف من النظام الحالي في مصر، وربما لخصومات شخصية، أو رغبة في الظهور، كما ذكر بعض المقربين من طرفَيْ الأزمة في إخوان مصر.

لا يمكن تقييم تجربة إخوان مصر، من منظور الكيفية التي تعامل بها إخوان الأردن مع أزمتهم الداخلية، أو مع الدولة

بالمثل، لا يمكن تقييم تجربة إخوان مصر، من منظور الكيفية التي تعامل بها إخوان الأردن مع أزمتهم الداخلية، أو مع الدولة، والتي وصلت إلى مستوى إغلاق بعض مقار الجماعة الأصلية، وذراعها الحزبي، حزب العمل الإسلامي.

فلا يمكن – على سبيل المثال – مطالبة إخوان مصر بالمشاركة السياسية في ظل النظام الحالي في مصر، مثلما قرر حزب العمل الإسلامي، دخول الانتخابات التشريعية المقبلة في الأردن، أو إعلان فصل إخوان مصر عن الجماعة على مستوى العالم؛ حيث لتنظيم الإخوان في مصر مكانة خاصة تاريخية ولائحية لا يجوز معها ذلك.

وبنفس المنطق رد إخوان مصر على أصوات ظهرت من داخل الحركة الإسلامية في مصر، بتكرار تجربة حركة "حماس" في قطاع غزة في التعامل مع الموقف بعد انتخابات 2006م، مثل تشكيل قوة أمنية بديلة لتجاوز معضلة عدم استجابة قوات الأمن النظامية الموالي لـ"فتح" للظروف التي أفرزتها الانتخابات، وقادت "حماس" إلى تشكيل الحكومة، أو حسم الأمر عسكريًّا، كما قامت به "حماس" في 2007م، بسبب اختلاف ظروف مصر وطبيعة الدولة فيها، بمؤسساتها الأمنية والعسكرية، عن ظروف قطاع غزة وطبيعة كلٍّ من "حماس" جهة، وموقعها المجتمعي، وطبيعة السلطة الفلسطينية وحركة "فتح"، وموقف الجمهور العام في القطاع منها، من جهة أخرى.

بالمثل، لا يمكن تخطئة إخوان الأردن بشكل كامل فيما قاموا به من إعلان عدم تبعيتهم لجماعة الإخوان المسلمين العالمية، وقبول أمور لم يكونوا قد قبلوا بها في الماضي، مثل الانتخابات حتى ولو كان هناك بعض تحفظات على قراراتهم؛ حيث إنهم تحركوا بناء على الظروف التي يمرون بها في البلد الذي ينتمون إليه.

وهكذا؛ فإن الأجدى من هذا الجدل العقيم الذي يستند إلى التنميط وأخطاء القياس، هو العمل فحص الدروس المستفادة من نماذج النجاح و"الفشل" الذي نقول إنه ليس فشلاً بقدر ما هو تراجع مرحلي ينتظر إصلاحات!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …