لن أنسى تلك الغرفة القديمة التي حوت كل أدوات المعيشة التي تعبر عن الحياة الزاهدة لفتح الله غولن، حيث أحيطت تلك الغرفة بهالة من التقديس والاهتمام الغير عادي، تلك كانت إحدى مشاهداتي في الزيارة التي شاركت بها ضمن وفد في دعوة رسمية من جماعة الخدمة للتعرف على الجماعة ودراسة تجربتها قبل ثلاث سنين.
زرنا عددا من المدارس الخاصة والمراكز المؤهلة لاختبار القبول في الجامعات التركية، والتي تحوي أماكن لإقامة الطلبة وإعدادهم الروحي والأكاديمي، والتي تعد إحدى أهم الأساليب في استقطاب الموالين لهذه الجماعة.
كما زرنا صحيفة الزمان وصرحها الشامخ، وجامعة الفاتح ومجموعة البث التلفزيوني "صمانيول"، وغيرها من المؤسسات التابعة.
كما التقينا في غرفة التجارة في منطقة من مناطق إسطنبول مجموعة من التجار الداعمين للجماعة، وفي معهد اللغة العربية عددا من الطلبة والأساتذة، وكان لنا لقاء مع أحد منظري الجماعة الكبار، أي أننا بالإجمال تعرفنا على الجماعة عن قرب.
وفي تلك الفترة كان الحديث يدور عن خلاف شديد مع حزب العدالة والتنمية حول سياساته وموقف “الأستاذ” غولن منها، والشكوى من قرار إلغاء المؤسسات التعليمية التي تمهد لدخول الجامعة، وهي من الوسائل المهمة في تجنيد الأنصار الذين يحملون فكر الجماعة من خلال استقطاب الطلبة المتفوقين من مناطق شتى وإعدادهم لاختبار القبول الجامعي، وتبنيهم بعد ذلك بإعطائهم منحاً جامعية.
وقد استحضرت كل هذه الأحداث وما جرى في تلك الزيارة وأنا أتابع مثل غيري من أبناء الأمة أحداث الانقلاب الدموي الذي اتهمت الجماعة بتدبيره في تركيا، وهنا ومن واقع تلك الزيارة أسوق الملاحظات الآتية:
أذكر دفاعهم عن موقفه من سفينة مرمرة، وإنكاره على المنظمين عدم الاستئذان من “إسرائيل”، وإنكارهم على أردوغان موقفه من الربيع العربي، ودفاعه عن الشعوب في مواجهة الأنظمة
1-لاحظت ذلك التعلق الشديد بشخصية (“الأستاذ”) وما يمثله من فكر ومواقف والدفاع عن كل ما يتبناه من مبادئ أو مواقف. وأذكر دفاعهم عن موقفه من سفينة مرمرة، وإنكاره على المنظمين عدم الاستئذان من “إسرائيل”، وإنكارهم على أردوغان موقفه من الربيع العربي، ودفاعه عن الشعوب في مواجهة الأنظمة.
2-تتبنى الجماعة فكر الشيخ سعيد النورسي وتستمد زادها الروحي من كتبه ورسائله التي تنزع إلى التدين الصوفي.
3-تحيط الجماعة جميع تحركاتها ونشاطاتها بالسرية وتعتمد أسلوب الخلايا التنظيمية التي تقترب جدا من نظام الأسر عند الإخوان المسلمين، ومما زاد هذه السرية تعقيدا اعتمادها على إيجاد دوائر(طبقات)في اتخاذ القرار، فالطبقة الأولى لا تتدخل في السياسات العامة وتناقش فقط الأمور الفقهية وتعلم اللغة العربية وزادها الروحي. وأما الطبقة الثانية فتتمثل في رجال الأعمال وداعمي الجماعة من كبار الموظفين، ومهمتهم تنحصر في مناقشة أساليب الدعم ومشاريع الجماعة في المجتمع المحلي. ثم تأتي طبقة المنظرين والمفكرين والقادة، وهؤلاء يلتقون ب”الأستاذ” بشكل دائم ويتواصلون معه بشتى السبل ويصنعون معه سياسات الجماعة ومواقفها.
الجماعة تدعي رغبتها في إقامة المجتمع الإسلامي، ولكن ليس بالطرق السياسية، بل تعتقد أن العلمانية هي أفضل الأوضاع لحكم تركيا حاليا ولا تريد أي خطوة استفزازية لأركان النظام العلماني
4-الجماعة تدعي رغبتها في إقامة المجتمع الإسلامي ولكن ليس بالطرق السياسية، بل تعتقد أن العلمانية هي أفضل الأوضاع لحكم تركيا حاليا ولا تريد أي خطوة استفزازية لأركان النظام العلماني. ومن هنا كان تأييدهم في البداية لحزب العدالة والتنمية، ولكنه عندما أفصح عن توجهاته الإسلامية في بعض القضايا اختلفوا معه، ولعل هذا الأمر هو أحد أسباب حنقهم على أردوغان.
5-تتبنى الجماعة خطة السيطرة على مفاصل المجتمع من خلال التعليم والأمن والقضاء، وقد اطلعنا على خطتهم في التعليم، أما القضاء والأمن فهو من الخطط السرية التي كشفتها الدولة التركية بعد زيارتنا بأشهر قليلة، وكان هناك اتهام لهم بأنهم يعدون لانقلاب على الدولة وهو ما كان أخيرا.
6-تكمن خطورة الجماعة في توسعها في إقامة المؤسسات المختلفة خاصة التعليمية خارج تركيا للسيطرة على الرأي العام التركي خارج تركيا، والنفاد من خلال الجاليات التركية إلى إقامة العلاقات مع الدول الغربية. ولعل اختيار “الأستاذ” للإقامة في الولايات المتحدة يؤكد على هذه القضية. كما أنهم يسعون إلى شراء الأقلام وأصحاب الفكر في أنحاء العالم الإسلامي؛ لتأييد فكرتهم، ويغرونهم بالأبحاث والعمل في معاهدهم المنتشرة في تركيا وأنحاء العالم.
الجماعة تسعى إلى شراء الأقلام وأصحاب الفكر في أنحاء العالم الإسلامي؛ لتأييد فكرتها، ويغرونهم بالأبحاث والعمل في معاهدها المنتشرة في تركيا وأنحاء العالم
7-القدرة المالية الهائلة التي يتوفر عليها التنظيم من خلال دعم رجال الأعمال، حيث اطلعنا على مشروع جامعة للبحث العلمي يكلف مائة مليون دولار في تركيا وأعتقد أنه قد تم بناؤه.
8-من خطورة فكر هذه الجماعة الانفتاح الشديد على غير المسلمين وتأليف قلوبهم دون دعوتهم للإسلام، وهم كأنهم يسوقون أنفسهم عند الغرب بمثل هذه الأفكار، وكانهم يقتربون من الماسونية لولا أنهم يحملون الإسلام بين ضلوعهم.
وأخيرا هذه بعض استنتاجات خلصت بها من زيارة امتدت لأيام معدودة حول هذه الجماعة العجيبة التي يتحدث عنها أردوغان أنها صنعت كيانا موازيا للدولة التركية، ويستغرب الكثيرون هذا الكلام. لكن من شاهدهم واختلط بهم عن قرب لا يستبعد أبدا ذلك، ولعل ما فعلوه في هذا الانقلاب (وهذا ما نتوقع أن تكشف عنه التحقيقات) هو أنهم تحالفوا مع رموز العلمانية في الجيش التركي الحانقين على توجهات أردوغان الإسلامية وتقاربه مع العالم الإسلامي وتبنيه للقضية الفلسطينية ودفاعه عن الثورة السورية وغير ذلك من المواقف المبدئية، فهم جمعوا كل أعداء التجربة الإسلامية في تركيا، واستغلوا رغبة بعض الأنظمة العربية وأمريكا والغرب في التخلص من أردوغان فخططوا لهذا الانقلاب ثم نفذوه مستبقين حملة حزب العدالة لتطهير الجيش ومفاصل الدولة منهم، ولكن الله تعالى أحبط كيدهم وأفشل مخططهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.