تُعتبر قضية مكافحة الفساد بمعناها المجتمعي والسياسي الواسع، من بين أهم قضايا العمران؛ حيث المعادل العكسي له، هو الإصلاح، الذي هو أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، ورسالة كل الأنبياء والرُّسُل الذين بعثهم الله تعالى لهداية العالمين عبر قرون البشرية الطويلة.
وإذا ما كان هناك درسٌ أوليٌّ نستفيده من خلال قراءة سريعة في كتاب التاريخ؛ فإنه سوف يكون الإيمان بأن قضية الإصلاح ومكافحة الفساد، بشتى صوره؛ إنما هي أشق مهمة يمكن أن يضطلع بها فردٌ أو جماعة، وبالتالي؛ فإنها بحاجة إلى الكثير من الفهم قبل العمل؛ حتى يمكننا الوصول إلى معالجة ناجحة لها.
أولى الأخطاء المفاهيمية المتعلقة بقضية الفساد، هو أن محاربته هو مهمة الحكومات، ولمّا ركنت الشعوب لهذه القناعة الخاطئة؛ أضحى الفساد حقيقة واقعة في حياتهم؛ يتعاملون معها، ولا يدركون أنهم بذلك إنما يمارسون أسوأ ألوان الإيذاء في حق أنفسهم وفي حق المجتمعات التي يعيشون فيها.
أولى الأخطاء المفاهيمية المتعلقة بقضية الفساد، هو أن محاربته هو مهمة الحكومات، ولمّا ركنت الشعوب لهذه القناعة الخاطئة؛ أضحى الفساد حقيقة واقعة في حياتهم
فلا يُوجد ظلمٌ أسوأ من التفريط في الحقوق لصالح نخبة مُتحكِّمة منتفعة، تزعم أنها هي الحارس الأمين على مصالح الأفراد والمجتمعات، بينما هي تمتص دماء الغالبية الكادحة من هؤلاء الناس.
ولعل هذا الأمر، هو الذي راكم عبر التاريخ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، التي لم تعرف مؤسسية الحكم إلا في القليل النادر، قضية فساد الأنظمة والحكومات؛ حيث غياب المحاسبة، وعدم وجود إطار ملزم يحكم أداء المؤسسات الوظيفية للدول والحكومات؛ جعلها أكبر مصدر للفساد والإفساد.
والثاني أخطر؛ حيث إن الفساد قاصر على صاحبه؛ بينما الإفساد يتخطاه إلى الآخرين، وفي مجالاته الكبرى؛ فإنه يشمل المجتمعات بالكامل.
فالمحاسبة قانون مهم لضمان صيرورة العمران البشري في الإطار السليم الذي يضمن تحقيق المصلحة.
ولنتصور على سبيل المثال، أن الله تعالى لم يجعل الثواب والعقاب؛ كيف كان سوف يكون حال الدنيا؟!.. لم تكن لتستمر أصلاً؛ حيث إن المحاسبة والخوف من العقاب هو الذي يضمن استقامة السلوك البشري في الغالب، إلا في حالات شديدة الندرة يكون فيها الوازع الداخلي للإنسان باعثًا له على الصلاح.
ولذلك؛ فإنه على علمه سبحانه وتعالى بمَنْ وبِمَا خلق؛ فإنه جعل سُنَّة الثواب للمحسن والعقاب للمسيء؛ لضمان استقرار العمران البشري في الأرض، إلى أن يأذن الله تعالى.
من هنا تأتي مسؤولية المجتمعات في قضية مكافحة الفساد بشتى صوره، وخصوصًا الفساد الأخلاقي الذي هو أساس أي فساد آخر؛ فلو تراجعت الأخلاق؛ سيُفتح الباب أمام كل صور الظلم والسرقة والجشع والاستبداد، وغير ذلك من صور الانحرافات المختلفة.
والإسلام ذاته فيه هذا المُدرَك المهم؛ فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، يقول: "إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق" [أخرجه البزار وصححه الألباني من حديث أبي هريرة].
حينما تكُف المجتمعات عن محاسبة نخبها الحاكمة، فإن هذه النخب تتحول إلى وحش يلتهم كل خيرات المجتمعات، وهو ما يقود إلى هلاك الأمم
ولذلك؛ فإنه لما تكُف المجتمعات عن محاسبة نخبها الحاكمة، والتأكيد على أن الدولة والحكومات والمؤسسات؛ كلها إنما هي مؤسسات وهيئات وظيفية جاءت لخدمة الشعوب، وليس لحكمها والاستبداد بها، ونهب ثرواتها؛ فإن الدولة وأدواتها المختلفة، تتحول في ظل ما هو ممنوح لها من صلاحيات وسلطات لكي تؤدي وظيفتها، إلى وحش يلتهم كل خيرات المجتمعات، وهو ما يقود إلى هلاك الأمم.
وقبل بعثة محمدٍ "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ فإن الله تعالى جعل سُنَّة إهلاك الأمم بفساد مجتمعاتها، وليس فقط فساد نخبتها أو سادتها، فعندما تفسد المجتمعات؛ ينهار العمران.
وهو أمرٌ واضح عند المقارنة بين قوم لوط وقوم ثمود وقوم عاد، وبين قوم فرعون وقت نبي الله موسى "عليه السلام"، ومن قبله قوم سيدنا إبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
ففي الحالات الأولى؛ كان الفساد عامًّا داخل المجتمعات؛ فأهلكها الله تعالى، بينما اكتفت المشيئة الإلهية في الحالتَيْن الأخريَيْن؛ فإهلاك النخب الفاسدة، مثل نمرود في مجتمع نينوى، وفرعون وملَئه في مصر، بينما بقيت المجتمعات لعدم شيوع الفساد فيها، وعلم الله تعالى أنها كانت مغلوبة على أمرها أمام رموز الفساد والاستبداد هذه.
إذًا؛ فإن قضية مواجهة الفساد، هي قضية المجتمعات بالأساس، لأن الفاسد في الغالب يكون الحاكم – في أي صورة؛ دولة أو ديكتاتور مستبد أو نخبة فاسدة – لأنه صاحب المصلحة الأولى من الفساد.
الحاكم عندما يستبد ويفسد؛ فإنه يكون من مصلحته أن ينتقل الفساد والاستبداد إلى كل مفاصل الدولة والمجتمع، لأن ذلك من شأنه أن "يشرعن" استبداده
ولكن هنا ثمَّة نقطة شديدة الأهمية، وهو أن الحاكم عندما يستبد ويفسد؛ فإنه يكون من مصلحته أن ينتقل الفساد والاستبداد إلى كل مفاصل الدولة والمجتمع، لأن ذلك من شأنه أن "يشرعن" استبداده، و"يُطبِّعه"، وهنا تتحول أزمة الفساد – والاستبداد السياسي بالمناسبة أحد صوره ونتائجه؛ وليس بعيدًا عنه – إلى معضلة كبرى؛ لأنه وقتها سوف ينساح في كل أرجاء المجتمع، ثم لن يلبث أن يتحول إلى ثقافة عامة وأسلوب حياة.
ومن ثمَّ؛ فإن معالجة الفساد المتأصل الذي يتحول إلى نمط عيش وسلوك؛ لن يكون إلا من خلال ثورة تسقِط منظمة الفساد القائمة، على أن تفرض هذه الثورة والقوى التي قامت بها، منظومة سياسية واجتماعية قاهرة في سلطتها على المواطن والمجتمع ككل، بحيث يكون هناك فصلٌ كامل بين ما يتم التأسيس له من أجيال وأطر مؤسسية نظيفة، وبين القديم المتهالك الفاسد، حتى يحكم الصاعد النظيف السليم، ويموت وينتهي الفاسد الخَرِب؛ شريطة أن يتم إزاحة النخب القديمة الفاسدة بالكامل، وتطهير المؤسسات منها قدر المستطاع، بما لا يقود إلى صراعات جانبية تفت في عضد الهدف الرئيسي لهذه الثورة.
معالجة الفساد المتأصل لن يكون إلا من خلال ثورة تسقِط منظمة الفساد القائمة، على أن تفرض هذه الثورة والقوى التي قامت بها، منظومة سياسية واجتماعية قاهرة في سلطتها على المواطن والمجتمع
وهي دورة حياة مجتمعية وسياسية، تتطلب عقودًا طويلة حتى تتحقق، وأصعب مرحلة فيها هي بدايتها؛ حيث لن يكون هناك أي شيء أو عامل مساعد باستثناء النظام الجديد، وبعض القوى المجتمعية التي تدعمه، لكي يقوم ببذر بذرة الجديد الصالح، وتعهدها بالرعاية، والتي سوف تكون في أضعف حالاتها أمام الغول القديم الحي، في بداياتها.
هذه هي المهمة الشاقة التي واجهت الأنظمة الجديدة التي أفرزتها ثورات الربيع العربي في بعض بلدانه، ولعل تطورات ما بعد هذه الثورات؛ تبرز كم أن المهمة شاقة، وبحاجة إلى زمن!.