إضاءات فقهية حول الانتخابات البلدية الفلسطينية

الرئيسية » بصائر الفكر » إضاءات فقهية حول الانتخابات البلدية الفلسطينية
تصميم الانتخابات

كثر الجدل مع اقتراب الانتخابات البلدية الفلسطينية، حول مدى عد الانتخابات قضية دينية أو سياسية، وما حكم المشاركة فيها؟ لذلك جاء هذا المقال، محاولة لتوصيفها، وبيان حكمها بصورة عامة، مع تحقيق مناطها في الحالة الفلسطينية الراهنة بشكل خاص.

الانتخابات تخضع للموازين الدينية أم السياسية؟

تعد الانتخابات وسيلة لاختيار الممثلين في الشؤون المختلفة، وهي مرتبطة بتولي المسؤوليات، ورعاية شؤون الناس؛ لذلك فهي مسألة سياسية، وإن الممارسات السياسية ينبغي ألا تجافي الأحكام الشرعية، فهي فعل إنساني، وأحكام الشريعة متعلقة بأفعال المكلفين(1)، غير أن ميزان الحكم عليها يختلف عن ميزان الحكم على مسائل العبادات، فالحكم فيها بالمجمل يعتمد على رجحان المصلحة المعتبرة شرعاً، من غير اشتراط وجود نص جزئي فيها، وهي مبنية على تعقُّل المعنى، وتحري الرشاد وفق الاجتهاد البشري، مع مراعاة الضوابط الشرعية المتعلقة بالممارسة السياسية في الترشح والاختيار، وأمانة الصوت وترشيح الأكفأ وانتخابه، والتزام القيم الشرعية في الدعاية للأحزاب والبرامج والمرشحين.

الممارسات السياسية ينبغي ألا تجافي الأحكام الشرعية، فهي فعل إنساني، وأحكام الشريعة متعلقة بأفعال المكلفين

حكم الانتخابات والمشاركة فيها:

يأخذ الموقف الشرعي من الانتخابات شكلين مهمَّين يكمِّل كل منهما الآخر، أولهما متعلق بالحكم الابتدائي من حيث ذات الوسيلة هل هي مشروعة أو ممنوعة؟، والثاني متعلق بتطبيق هذه الوسيلة في بيئة معينة، وهو ما يعرف بتنزيل الحكم الشرعي على الواقع، مع مراعاة المتغيرات الزمانية والمكانية سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، والمآلات المترتبة عليه من مصالح ومفاسد، وعليه فإن ما يكون مباحاً أو محرماً ابتداءً، قد يتنقل حكمه عند تنزيله على الواقع بين الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون محرمًا إذا غلب على الظن ترجح المفاسد على المصالح في هذه الحالة، ويصبح واجبًا إذا تعين وسيلة لتحقيق المصالح في حالة أخرى، لذلك سأبين حكم الانتخابات كوسيلة مجردة، ثم أتحدث عن حكمها في الانتخابات البلدية الفلسطينية.

أولاً: الانتخابات كوسيلة مجردة:

عودة الانتخاب إلى الشعب مباشرة، يعد تقدماً يتفق مع مقاصد الشريعة في الحكم، فالشريعة أعطت الناس الحق في اختيار من يحكمهم

إن الانتخابات وسيلة لاختيار الأشخاص من يمثلهم، ومعلوم أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فإن كان مقصدها مشروعاً كانت كذلك، والوسائل المتعلقة بالحكم متغيرة، تختلف باختلاف الزمان والمكان، والبدائل المتاحة، فالانتخابات البلدية وسيلة لتنصيب مجلس بلدي، وتوصيف هذا المجلس أنه عمل عام خدماتي، حيث كان الاختيار لهذه الوظائف قديمًا من قبل ولي الأمر، أما اليوم فاختياره من الشعب مباشرة.

ولما كانت الأمة هي الأصل، وولي الأمر نائباً عنها، فإن عودة الاختيار إلى الشعب يعد تقدماً يتفق مع مقاصد الشريعة في الحكم، فالشريعة أعطت الناس الحق في اختيار من يحكمهم، وينوب عنهم في تدبير شؤونهم العامة، وكل الوسائل والآليات التي تحقق العدل وتنفي الظلم تعد وسائل مشروعة في نظام الحكم، بل إن المسألة قد تتعدى الحكم بالجواز وترتقي إلى درجة الوجوب، وذلك إذا كان من يمارس المسؤولية ظاهر الفساد، وهناك من هو أصلح منه، وكانت الانتخابات الوسيلة الأيسر في تغييره، فيكون التغيير واجباً، حيث إن التدافع الانتخابي وسيلة للأمر بالمعروف الجماعي، والنهي عن المنكر السياسي والاجتماعي، من خلال تغيير البرامج المنكرة الفاسدة، وتغيير القائمين عليها(2).

إن القول بالجواز هو ما عليه جمع كبير من أهل العلم، ولا يعكر على المشروعية عدم وجود هذه الوسيلة في تراثنا سابقاً، أو ابتداء ظهورها عند غير المسلمين، فهي مكتسب إنساني يمكن الاستفادة منها في بيئات مختلفة ومجالات متعددة، ولا ارتباط لها بالعقيدة التي لا تقبل التقليد والاستيراد، كما لا تعد من العبادات التي تأخذ طابعًا توقيفيًا، بل تنسجم مع الأصل الشرعي في نظام الحكم، المتمثل في حق اختيار الناس لممثلهم.

أما القائلون بالتحريم فأدلتهم في غير محل الخلاف، وهي ظنية لا تقوى على دفع أدلة المجوِّزين، كما أن المفاسد التي تحدثوا عنها، إما أنها حقيقية يكثر وقوعها لكنها دون حجم المصالح المترتبة، أو مفاسد نادرة قليلة الوقوع والعبرة للغالب، أو مفاسد متوهمة فلا يلتفت إليها، وقد تتبع عدد من العلماء المعاصرين أهم الشبهات المثارة حولها، وأجابوا عنها إجابات تبرأ معها الذمة عند القول بالجواز(3).

ثانيًا: الانتخابات البلدية في فلسطين:

تعد مصالح المشاركة في العملية الانتخابية أكثر من مفاسدها، حيث تساعد في تفكيك الأنظمة الاستبدادية، وتعزيز أجواء الحرية في اختيار الممثلين

تجري الانتخابات الفلسطينية في ظل ظروف عسيرة، تتمثل في الاحتلال الجاثم على الأرض، والانقسام بين شطري الوطن وفصائله، والحصار المفروض على قطاع غزة، مما يجعل التدافع السياسي يشكِّل استنزافًا على حساب القضية الفلسطينية، ويجعل الانتخابات وسيلةً لتعزيز الانقسام بأدوات جديدة ما دامت المصالحة غير متحققة، ويحرف المؤسسات الخدماتية عن دورها الأساسي لتصبح مجالًا للصراعات السياسية، كما أن احترام نتائجها فلسطينياً ودولياً أمر مشكوك فيه حال فوز الإسلاميين، يضاف أن إجراءها في ظل الملاحقات الأمنية في الضفة الغربية، وكبح الحريات، والانصياع لقيود المانحين الغربيين، ومحاولة تأجيج البعد الطائفي بين المسلمين والمسيحيين، واعتماد نظام الانتخاب النسبي للقوائم بما يقيد حرية انتخاب الأفراد، وغيرها من المآخذ التي تجعل الانتخابات لا تحقق مقاصدها كما هو مأمول.

وبالرغم من كل هذه المفاسد، المضافة إلى أن نظام الدولة المدنية لم يحقق كثيراً من مقاصد الإسلام في الحكم، إلا أن احترام قوانينه، واستثمارها في الإصلاح هو المتفق مع مقاصد الشريعة في إنكار المنكر قدر المستطاع بأقل تكاليف، وتحقيق الصلاح والاستقرار والنهوض ما أمكن، وتعد مصالح المشاركة في العملية الانتخابية أكثر من مفاسدها، حيث تساعد في تفكيك الأنظمة الاستبدادية، وتعزيز أجواء الحرية في اختيار الممثلين، وما يترتب على نجاح هذه الانتخابات من الشروع في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمجلس الوطني، بما يسهم في إصلاح المشروع الوطني المتآكل، وتمكين مشروع المقاومة.

إن مشاركة المفسدين في العملية الانتخابية مع احتمالية فوز بعضهم، تبقى مفاسدها دون مفاسد تعطيل الانتخابات وبقاء المفسدين يقررون مصير الشعب وقضيته، فالانتخابات مظنة تقليل حجم الفساد وإن لم تعدمه، وإن حديث بعض الفقهاء قديمًا عن حكم تولي غير المسلمين والفساق والمبتدعة للمسؤوليات العامة، جاء في سياق ترتب المفاسد الغالبة على مشاركتهم، مما جعلهم يتحدثون عن حرمة تمكينهم، غير أن القبول بالمفضول بعد فوزه في الانتخابات فيه مفسدة دون مفسدة عدم إقراره، فالأمة تعيش حالة حصار واستضعاف يتناسب معها الأحكام الاستثنائية الاضطرارية، لا المثالية الاعتيادية، واحترام هذا النظام والتفاعل معه يمكن أن يتيح الفرصة لتقدم الأكفاء، واستثمار هامش الحرية التي يوفرها نظام الديموقراطية في إيجاد مساحات عمل، تحقق الأهداف الإسلامية من خلال المؤسسات الرسمية والمدنية المجتمعية، بما يخدم الإسلام والمجتمع والمقاومة(4).

لقد أجازت الشريعة وسائل تغييرية غير محببة لها في أصلها، نظير مصالحها التي تربوا على المفاسد، فالجهاد فيه قتل وسفك للدماء، ومع ذلك جاز كوسيلة لحفظ الكليات الخمس، والهجرة ومفارقة البلاد والأهل فيها من المفاسد ما فيها، غير أنها أجازتها للخروج من الاضطهاد، باعتبارها الوسيلة الأنسب لهم في وقتها، فهي مجرد وسيلة لا مقصد، أما المقصد منها فهو التخلص من الظلم والفساد، فإذا توافرت وسائل أخرى تحقق هذه المقاصد في زماننا ونحن في بلداننا من غير قتال، وتدفع الظلم والفساد، وتسهم في إرساء العدل والصلاح، فينبغي السير إليها بعزيمة وثقة ورؤية، فالشريعة تتمسك بالغايات ولا تقدس الوسائل.

الانتخابات وسيلة مشروعة في التدافع بين المشاريع، ومدخل مؤثر في الإصلاح، وتكلفتها في التغيير المحلي أقل من تكلفة الوسائل العنيفة التي تمزق المجتمعات

ختامًا فإن الانتخابات وسيلة مشروعة في التدافع بين المشاريع والبرامج، سواء بين الصالح والأصلح منها، أو الصالح والفاسد، أو الفاسد والأفسد، وتعد مدخلاً مؤثراً في تغيير الواقع وإصلاحه، وتكلفتها في التغيير داخل البلدان أقل بكثير من تكلفة الوسائل العنيفة التي تمزق المجتمعات، وتستنزف طاقاتها بعيداً عن أولوياتها، وتحرف بوصلتها عن وجهتها الصحيحة، وخاصة أن الشعب الفلسطيني يعيش تحت احتلال، وينبغي بقاء البوصلة متجهة نحو دحره، وتحرير الأرض منه.

___________________________
الهوامش
(1) انظر: مقال للشيخ ونيس المبروك، بعنوان: مقاربة في الإفتاء السياسي، وهو منشور على الإنترنت ورابطه: http://cutt.us/DlRW0
(2) انظر: الفكر الإسلامي وقضايانا السياسية المعاصرة للدكتور أحمد الريسوني (ص: 75 وما بعدها).
(3) لمزيد من الأدلة والمناقشات انظر: ميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة للدكتور يونس الأسطل (ص: 201)، الانتخابات وأحكامها في الفقه الإسلامي للدكتور فهد العجلان، الإسلاميون والعمل السياسي للشيخ مصطفى السليماني.
(4) الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة للدكتور إسماعيل الشطي (ص: 208).

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …