يعتبر الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبقى في دوامة التعليم المستمر، وبناءً عليه فإن عملية التقليد والمحاكاة هي سمة طبيعية لديه مهما بلغ الإنسان من العمر. وهذه السمة تبدأ منذ الطفولة وتستمر حتى نهاية الأجل. وهي التي تميز الإنسان وتجعله يسعى دائماً إلى تغيير شبه دائم في سلوكه. ومع تطور الأساليب الحياتية فإن الأساليب التربوية كذلك شهدت تطوراً واضحاً يسمح للطفل بانتقاء السلوكات التي يحبها ضمن البوتقة الاجتماعية التي يعيش فيها، فظهر ما يسمى بمفهوم التعلم الاجتماعي أو التعلم من خلال النموذج.
فما هو التعلم من خلال النموذج أو التعلم الاجتماعي؟
يعرف هذا النوع من التعلم على أنه اكتساب الفرد أو تعلمه لأنماط سلوكیة جديدة من خلال موقف أو إطار اجتماعي، أي أن الطفل يكتسب سلوكات تتجذر في ذهنه يكون قد تلقاها من بيئته المحيطة، وطبعاً كلنا نعلم أن الأسرة النواة هي أول المؤثرين على الأطفال؛ كونها المحضن الأول له. ويتعدى التعلم من خلال النموذج على المعارف والمهارات ليشمل كذلك العواطف والمشاعر وكيفية التعبير عنها.
يعرف هذا النوع من التعلم على أنه اكتساب الفرد أو تعلمه لأنماط سلوكية جديدة من خلال موقف أو إطار اجتماعي
بمعنى أن الطفل الذي يشاهد والدته ترفع من نبرة صوتها وتلجأ للصراخ عندما تغضب، سيقوم بتقليد ردة فعلها العاطفية بنفس الطريقة عندما تجتاحه حالة الغضب؛ لأن هذا ما شاهده وتعلمه كطريقة للتنفيس عن الغضب، بخلاف الطفل الذي يشاهد والده عندما يغضب يلجأ للصمت فسيقوم حتما بتقليد ذات الأسلوب في غضبه.
وتعتبر الانتقائية من أهم مميزات التعلم النموذجي الذي يخسر الأهل بسببها الكثير من القيم التربوية التي يظنون أنها قد تعمقت في نفوس أطفالهم، بمعنى أن الطفل لا يقم باكتساب جميع الأنماط السلوكية التي تصدر من الشخص المقَلَد والذي هو الأب مثلاً، فطفلنا الذي يُعتبر المقلِد يمكنه إعادة هيكلة تلك السلوكيات وتهذيبها وفق ما يتناسب مع أدواته، فمثلاً يمكن للطفل تقليد والده المدخن باستخدام أعواد الثقاب إذا لم يتمكن من الحصول على سيجارة من علبة السجائر، ولا يقلده مثلاً في طريقة صلاته لأن دافعيته للسلوك الأول تكون أعلى وأقوى في عملياته المعرفية.
ما هي أهمية تعليم الطفل من خلال النموذج؟
الطفل هو المكسب الاستثماري الأول في حياة الوالدين، وتعتبر النماذج أمراً حيوياً في حياة أسرنا العربية، الأمر الذي يدعونا إلى معرفة أهمية صياغة تلك النماذج ضمن أطر تزيد من كفاءة أطفالنا التربوية، إضافةً إلى عدم قدرتنا على عزل الطفل عن البيئة الاجتماعية التي نعيش بها سواءً أكنا نقبلها أم نرفضها، وعليه فإن معرفتنا لهذا الأسلوب التربوي الجليل من شأنه أن يختصر على المتعلم وكذلك المربي الكثير من الجهد والوقت لاكتساب المعارف والمهارات.
ما هي النماذج التي يتلقى منها الطفل سلوكياته وتكون قوية التأثير؟
يقول العالم النفسي آلبرت باندورا مكتشف هذا النوع من التعلم أن النموذج الذي يكتسب من خلاله الطفل السلوكات يمكن تقسيمه إلى نوعين:
1) نموذج حي: يعتبر النموذج الحي هو الكائنات الحية التي يتفاعل معها الإنسان ابتداءً من أمه كونه يلتقي بها، وانتهاءً بالبيئة المحيطة كالأسرة الممتدة والأقارب والأصدقاء.. وعليه فإن الجو العائلي السائد يتدخل في صقل شخصية الطفل وإكسابه مجموعة من السلوكيات سواءً أكنا نقبلها أم نرفضها كوالدين.
فمثلاً العائلة التي يعتبر الشتم نمطاً سلوكياً متقبلاً لديها نجد معظم أطفالها يقومون بمثل ذلك السلوك حتى لو كان الوالدان يرفضانه ولا يقومان به. ومن هنا أتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه إذ قال: "مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَاكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذْبَةٌ" (حديث صحيح، رواه أحمد). وهذا أمر عظيم يدعونا به الرسول الكريم لنكون خير قدوة ونموذج. فالطفل إذا علم أنك تكذب عليه فإنه سيعتاد على ذلك، وستصبح عنده فيما بعد متلازمة الكذب.
2) نموذج غير حي: ويتمثل بالأدوات الإعلامية بكافة أشكالها، تلك الأسلحة الفتاكة التي يسلم الآباء رقاب أطفالهم لها دون مراقبة أو ضبط، وتعد تلك النماذج التي تقدمها تلك الوسائل خطيرة جداً؛ لأن الطفل يبني عليها عالمه دون توجيه من الأهل أو تدخل، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الطلاب يقضون في السنة 1500 ساعة أمام التلفاز مقابل 900 ساعة فقط في السنة في المدرسة.
معظم المربين يقولون لأطفالهم "إذا كذبت سوف يدخلك الله النار" ونكون قد رسخنا في عقولهم صورة لا تليق بالله حيث ننزع عنه صفات الرحمة والعدل، فيمكننا قلب المثال لنقول لهم: "إن صدقت فسيدخلك الله الجنة"
3) نموذج غير مباشر: وهي النماذج التي ترتسم في خيال أطفالنا عن طريق الشخصيات البطولية للقصص والروايات، وهذا النموذج يمكن تفادي مشاكله مع أطفالنا لو عاينا طبيعة القصص التي يقرؤها أطفالنا أو حتى تلقى على مسامعهم، وهنا أود التنبيه إلى طرق حديثنا مع أطفالنا حول ذات الله العلية، فمعظم المربين يقولون لأطفالهم "إذا كذبت سوف يدخلك الله النار" ونكون قد رسخنا في عقولهم صورة لا تليق بالله تبارك وتعالى حيث ننزع عنه صفات الرحمة والعدل، فيمكننا قلب المثال لنقول لهم: "إن صدقت فسيدخلك الله الجنة".
التعليم بالنموذج والإسلام:
يعتبر هذا الأسلوب التربوي من أهم الأساليب التي عزز بها الإسلام سلوكيات تابعيه وحاملي لوائه. فقد أغدق علينا القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تدل على أهمية النموذج المتبع {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]. أيضاً فقد اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأسلوب لتعليم الناس أمور دينهم كالصلاة والوضوء والحج، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن مالك ابن حويرث: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
لماذا لا يعتبرنا أبناؤنا خير قدوة لهم؟
أظن أن أبناءنا يحرموننا وسام القدوة لأننا ننتقد أكثر مما نوجه، ونجبر أكثر مما نقنع، ونرعى أكثر مما نهتم
تقول لي أم لطفلة تبلغ من العمر 11 عاماً أن ابنتها كثيراً ما تعجب بطبخ أقربائها وتثني عليه، ولا تكترث إلى طبخي مع العلم أن أني ماهرة جداً كما يقول الجميع عني! حقيقة لفتني ذلك جداً باعتبار أن أزمة القدوات بين الوالدين وأطفالهم أزمة حقيقية تنم عن نخر في معنى ذاتنا لديهم. أظن أن أبناءنا يحرموننا ذلك الوسام؛ لأننا ننتقد أكثر مما نوجه، ونجبر أكثر مما نقنع، ونرعى أكثر مما نهتم، لذا فلنحافظ على ذات أطفالنا؛ لأنها من ذواتنا.