للوهلة الأولى يمكننا القول إن العقل الوضعي لم يكتشف فكرة أرقى وأعظم من فكرة الديمقراطية، وأن الفكر الديني لم يتعرض لامتحان أصعب من امتحان المنافسة مع الديمقراطية، آخذين بعين الاعتبار امتحانه القاسي مع الماركسية والشيوعية بالطبع. ذلك أن الديمقراطية - في صيغتها الليبرالية - قدمت من العروض ما لم يقدمه الفكر الديني في مجال الحقوق والحريات، وهو مجال المنافسة الحقيقية بين الدين والفكر الوضعي.
ولعلك لاحظت أننا استخدمنا مصطلحين متشابهين هنا هما الدين والفكر الديني، وهذا لم يأت اعتباطاً، فنحن نميز بينهما تمييزاً حاسماً، على اعتبار أن الدين هو ذلك المنزل السماوي المتفق على ثبوته وحجيته ودلالته بين أبناء الملة الواحدة، أما الفكر الديني فهو ثمرة دوران العقل حول النص الديني نفسه، أو هو - بلغة الأصوليين - الاجتهاد والفقه والمذهب. ومن ثم فإن المقابلة هنا هي بين الفكر الوضعي والفكر الديني، لا بين الدين والفكر الوضعي. بل إن هذه المقالة ستخلص إلى مفارقة عجيبة تقول إن الصراع في حقيقته صراع بين الدين والفكر الديني!، وهذا هو غرضنا من افتتاح المقالة بعبارة "للوهلة الأولى".
الخطاب الديني التقليدي يركز الضوء على شروط الحاكم العادل أكثر من تركيزه على البعد المؤسسي للدولة
تقوم النظرية الديمقراطية -في صيغتها الليبرالية- على ثلاثة أركان أساسية هي: حقوق الإنسان المدنية والسياسية، ودولة المؤسسات، والتداول السلمي للسلطة. والترتيب هنا - كما يقول المفكر العربي الراحل محمد عابد الجابري - مقصود ومهم.
مما يعني أن حقوق الإنسان تمثل أهم الأركان في هذه الثلاثية. إذ لا يمكن التسليم بفكرة التداول السلمي للسلطة ما لم يتم التسليم مسبقاً بحقوق الإنسان المدنية والسياسية. وأمام هذه الأركان الثلاثة يحدث الامتحان الصعب للفكر الديني، وذلك على النحو الآتي:
بخصوص الركن الأول فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يقدم عرضا في الحقوق والحريات أكثر تقدماً ومقبولية - في نظر الإنسان الحديث - من ذلك الذي يقدمه الفكر الديني الإسلامي على سبيل المثال. إذ أن هذا الأخير ما زال متردداً في إقرار بعض الحريات والحقوق، كحق تغيير العقيدة وحرية التعبير.
أقول متردداً لأن قلة من المفكرين والفقهاء المسلمين رفضت ما يسمى بحد الردة الذي عليه جمهور الفقهاء. وعقوبة الردة هي إحدى المياسم التي شوهت قليلاً عروض الفكر الإسلامي في مجال الحقوق والحريات. كذلك فإن مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفاهيم الولاء والبراء - بدلالاتها التقليدية في التراث الفقهي - ما زالت تشكل عبئاً على الدين ونقاط ضعف في الخطاب الإسلامي.
الفكر الإسلامي (المذهب) قد حمل الإسلام (الدين) عبئاً ثقيلاً حين نسب إليه جزءاً كبيراً من منتجاته
أما على مستوى الركن الثاني والثالث في أركان الديمقراطية فإن الميزات التنافسية التي يقدمها الفكر الإسلامي في صيغته التقليدية -أقل بكثير من تلك التي تقدمها الديمقراطية. إذ أن فكرتا الإمامة والخلافة تجعلان الحاكم الفرد مركز النظرية السياسية، وهذا يأتي على حساب مؤسسات الدولة بالطبع. فالخطاب الديني التقليدي يركز الضوء على شروط الحاكم العادل أكثر من تركيزه على البعد المؤسسي للدولة.
ولعل هذا هو الذي غيب في تاريخنا شريحة من المثقفين سماهم عزمي بشارة مثقفو الدولة، أي المثقف المحافظ الذي يدافع عن فكرة الدولة لا عن النظام السياسي الحاكم. ومع أن الخطاب الإسلامي المعاصر قد شهد بعض التطورات باتجاه التركيز على الدولة ومؤسساتها، إلا أن هذه التطورات لم تأخذ شكل المراجعات الثورية كما هو مطلوب، ذلك أن هذا الخطاب التجديدي صدر عن جماعات لا تعطي كبير اهتمام لجانب الفكر والمراجعات ذات الطابع النظري. ولا شك أن الخطاب الذي يركز على شخص الحاكم على حساب مؤسسات الدولة والمجتمع، لا يمكنه التفكير في مسألة التداول السلمي للسلطة. لأن هذه الأخيرة ليست سوى ثمرة من ثمار المؤسسية التي تخلق توازناً ضرورياً لتبادل السلطة السلمي.
ومن الدروس التاريخية الدالة في هذا السياق ما ذكرة الباحث الأمريكي توبي . إ . هف في كتابه فجر العلم، حيث يذكر أن المقدمات الأساسية للنهضة الأوروبية - بما فيها النهضة الإنسانية التي توجت بسلطة الديمقراطية - كان من أوائلها تبلور مؤسسات مجتمع مدني خارج سلطة الدولة إلى حد ما، مثل نقابة التجار والمعلمين وما شابه ذلك. وهي واحات صغيرة ظلت توسع مساحات الحرية في المجتمعات الأوربية رويداً رويداً، وتقوي المجتمع في مواجهة تغول الدولة، كما أن الانقسام الحاد بين سلطة الدولة وسلطة الكنيسة أيضا قد ساهم في خلق حالة من توازن القوى أفادت المجتمعات الأوربية إلى حد ما.
أمام هذه الامتيازات والعروض المغرية للديمقراطية يقف الفكر الإسلامي تحديداً في وضع حرج، وبالكاد يمكنه المنافسة في الصراع على أفئدة المسلمين وعقولهم. ويبدو أن هذه المسألة هي التحدي الأكبر الذي واجهه الإسلام منذ ظهوره وحتى الآن، ففي كل تاريخ الصراع مع الأفكار لم يضطرب الفكر الإسلامي أمام فكرة كما اضطرب أمام فكرة الديمقراطية، وهو الذي خرج منتصراً في صراعه مع الإلحاد والشرك والديانات القديمة والشيوعية.
وهنا نأتي إلى حقيقتين نختم بهما هذا المقال: الأولى أن الفكر الإسلامي (المذهب) قد حمل الإسلام (الدين) عبئاً ثقيلاً حين نسب إليه جزءاً كبيراً من منتجاته، وقال هذا من عند الله وما هو من عند الله، وإنما هو ثمرة عقول المتدبرين، في ضوء الشروط المعرفية التاريخية. والحقيقة الثانية أن حقوق الإنسان التي قدمها العقل الوضعي ليست من بنات أفكار هذا العقل، وإنما هي أثر من آثار الدين الباقية فيه. فبحسب اعتراف فلاسفة الحقوق والحريات، فإنه لا يوجد أصل مادي يبرر مبدأ المساواة الذي تقوم عليه منظومة حقوق الإنسان، وهو ما دفعنا للقول إن الصراع في مجال الحقوق والحريات ليس بين الدين والفكر الوضعي، بل بين الدين والفكر الديني نفسه!.
* كاتب وإعلامي يمني
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة