بلادنا أرض مباركة... اختارها الله من فوق سبع طباق لتكون بوابة العبور إلى السماء عبر المعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء، فتشرفت حبّات الثرى بموطئ رسول الهدى. ليعلن اكتمال الرسالات بوضع آخر حلقة في سلسلة النبوات، ولأجل ذلك نحب فلسطين، ولها ننتمي.
والنظرة السليمة تأسرنا والارتباط بمواطن الأجداد يشدنا، والعاطفة الصادقة تهزنا، والمشاعر الإنسانية تدفعنا، وترانيم شاعر من بعيد تسعّر الحنين في قلوبنا.
وكم من منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأوّل منزل
وفي التاريخ لنا اعتبار ومساحات واسعة لزهوّ وافتخار؛ ففي أرضنا كانت نهايات لأعداء مروا فوق ترابها ذات يوم، دخلوها في لحظات غفلة من أهلها، ظنوها لقمة سائغة فابتلعتهم في بطنها، ومحت آثارهم عن ظهرها. ففلسطين كانت أرض الحسم لكل الأزمات الكبرى في مسيرة الأمة كلها، فيها هزم أهل الصليب وارتدوا خائبين، ولو بعد حين. وفيها تحطم جبروت الوثنية في عين جالوت. وتاريخها القادم يخبرك بأن بقية من أهل الكتاب عاثوا فيها فساداً سيمضون ولأجل ذلك نحب فلسطين ولها ننتمي.
نحن نتمسك ببقعة تضم المسجد الأقصى؛ لأن العقيدة تلزمنا، والدين يأمرنا، والفطرة تدعونا، والانتماء يشهد علينا، والتاريخ يلهمنا، والواقع يشجعنا، والمستقبل يوحي لنا
نحن نتمسك ببقعة تضم المسجد الأقصى؛ لأن العقيدة تلزمنا، والدين يأمرنا، والفطرة تدعونا، والانتماء يشهد علينا، والتاريخ يلهمنا، والواقع يشجعنا، والمستقبل يوحي لنا، والمسألة عندنا يحكمها العقل والمنطق كما تلهبها المشاعر والعواطف، وهي بذلك غير قابلة للمساومة ولا يعتريها شك أو ريب.
ورغم ذلك فإن ضغط الأحداث وتتابع المحن تربك البعض منا، ويغريه الشيطان بالتأويل ويبسط بين يديه الحجج والأعذار، وهو بذلك يخدع نفسه ويوهمها وينسى بأن الله يعلم ما في الصدور.
غير أن للهجرة أسباباً لا ننكرها وضرورات لا ننفيها، الدراسة أولها والعلاج ثانيها والعمل ثالثها، وربما كان لها عند البعض رابع لكن شدة الحاجة تقرر ومدة الاضطرار تحسب، وقوة السبب لها اعتبارات مشروعة.
وحرص المرء على سلامته ليس منها أو إيثار التنعم والرفاهية وطول السياحة لا يعد منها، وادعاء زيادة دراهم معدودة في الرزق غير مقبول.
وما قد يسع الناس ربما لا يصلح لحماس، فرجالها أهل للعزائم وهم أولى بضرب الأمثلة. فقد كنا فتية في مقتبل العمر قبل الانطلاقة بسنوات، قليل عددنا. وكانت رغبة القيادة حينها استبقاءنا للدراسة في جامعات الوطن. فمنا من التزم وأطاع، ومنا من استهان بالأمر أو خضع لضغوط أهله وغادر. رجعت ثلة خيرة والتزمت الركب، وأصر البعض على الابتعاد وهاجر، واستساغ هواء الغربة وألف مائها وتخلى عن النية المخلصة بالعودة.
الرجال مواقف وللأعمال عند الله درجات تتفاوت، والمراحل الاستثنائية تحتاج إلى قرارات استثنائية. إذ لما كان الإبعاد الجماعي إلى مرج الزهور أراد العدو حرمان الشعب من قادة ورموز، وخطط لإجهاض المشروع الإسلامي المتصاعد بتفريغ الأرض من الدعاة. وظننت حينها بفطرتي التي تربيت عليها أن أرى بعضاً من أهل العلم والانتماء الحركي يعودون إلى فلسطين لتعويض النقص وملئ الفراغ، خاصة أولئك الذين لا تمنع قوات الاحتلال رجوعهم، وهم كثر، غير أن ذلك لم يحدث إلا نادراً، وكان البعض ينتظر قراراً يلزمه أو أمراً يجبره، وقد كانت تكفيه الإشارة، والحجة قائمة عليه، والخيار دوماً بين يديه.
وقدر الله بعد ذلك لجند حماس أن يصبروا وأن يحطموا مؤامرة الإبعاد بثباتهم، وتمكنوا من العودة إلى ديارهم وإن استقبلت السجون غالبيتهم، ودار نقاش في خيام المبعدين كانت نتيجته السماح بعدم الرجوع لمن غلب على ظنه أنه سيمكث في السجن مدة تتجاوز سنوات عشر. وهو درس جدير بالمذاكرة وتجربة تستحق البحث، ومرحلة مليئة بالعبر، والعاقل يدرك استمرار الصراع ويعي أبعاده.
الملايين من أخيار الأمة في مشارق الدنيا ومغاربها يتمنون لو أنهم مكانك وتبلل الدموع وجناتهم لأجل ذلك. وهم يغبطونك ويحترمونك ويقدرونك. فاحفظ منزلتك عندهم
ومن الغرائب أن يتساهل بعضنا بالأمر فيما العدو يتشدد. ويضع للمسألة قوانين عقب تأسيس كيانه، نسميها قوانين العودة. يزين فيها لعناصره الهجرة إليه، ويغريه بالعيش الرغيد، ويمنيهم بالسعادة والهناء وهو رغم لغته الهجينة يستخدم في هذا الجانب كلمات لها أبعادا نفسية وآثارا تربوية فهم يصفون القادم الجديد إليهم بكلمة معناها الأصلي يدل على الصعود والارتقاء، بينما يطلقون على من يغادر الأرض ويتركها لفظة أخرى معاكسة تعني الهبوط والنزول.
وهي لفتة تستحق الوقوف عندها، ولسنا من يحاكي عدوه أو يقلد فعله إذ عندنا ما يكفي لتثبيت الفكرة، ولدينا حاجتنا من التأصيل الشرعي والوعي الوطني والشعور الإنساني.
لكنه سهم نطلقه تجاهك نستفزك من خلاله ونستنهض همة كامنة في نفسك نعاجلك قبل أن يستمد بك الوهن وعند التحدي تتوقد الإرادة ويشتد العزم وتتسارع الخطوات البطيئة كأنها تنضم إلى سباق المسافات القصيرة.
وتذكر أن الملايين من أخيار الأمة في مشارق الدنيا ومغاربها يتمنون لو أنهم مكانك وتبلل الدموع وجناتهم لأجل ذلك. وهم يغبطونك ويحترمونك ويقدرونك. فاحفظ منزلتك عندهم.
إن قهرتك الظروف وأجبرتك الأقدار على التواجد خارج فلسطين، فأنت في موضع ابتلاء لا تحسد عليه، والواجب لا يسقط عنك وإن اختلفت وسائله
أما إن قهرتك الظروف وأجبرتك الأقدار على التواجد خارج فلسطين، فأنت في موضع ابتلاء لا تحسد عليه، والواجب لا يسقط عنك وإن اختلفت وسائله.
المناصرة حق عليك، والدعم أمره إليك. والتأييد مطلوب منك، ونحب أن نراك عنواناً للقضية حيثما كنت، ترفع راياتها وتتابع أخبارها وتدافع عن حقها، وتتضامن مع مصابها، وتساند محتاجها.
وتتصدى لعدوها، وتفضح من يتآمر عليها. وتعادي من يمكر بها. وتربي أطفالك على حب الديار وتعلمهم حكايات الأجداد. وتحكي لهم قصص المجاهدين، وتروي لهم تفاصيل التاريخ وتبصرهم بخبايا الواقع. وتزرع الأمل في نفوس العامة. بأن النصر والتمكين قادم لا محالة. لا شك فيه ولا مراء.
هكذا هو الأمر... وذلك أضعف الانتماء.
وعنوان صدقك أن تطل على ربى فلسطين في كل صباح أو مساء، أو تولى وجهك شطرها وتنادي بقلب مخلص.
والله إنك لأحب بلاد الله إلى قلبي.
ولولا أن أعداءك أخرجوني منك ما خرجت
وحينها نسأل الله أن يكتب لك أجر المرابطين، وأن يعدك من عباده المجاهدين.