تمهيد
يعتبر الدين والعشيرة والفصيل؛ ثلاثية يقوم عليها المجتمع فإما تكون معه أو تكون عليه، وهي معًا تشكل حصانة لكل مستوى من مستويات المجتمع، فالدين يحكم العُرف لمنطقه، والعشيرة تحمي أفرادها، فيما الفصيل أو التوجه السياسي يمثل الحصانة للأفكار التي يدعو إليها ولأبنائه الذين يعتنقون ما يدعو إليه.
إلا أن سياسات السلطة الفلسطينية خلال السنوات الماضية ولن أبالغ إن قلت منذ دخولها عام 1994م؛ استهدفت هدم هذه الثلاثية؛ بتشويه الاحتكام للدين، وكسر شوكة بعض العائلات، وإقصاء الخصوم من الفصائل وصولًا إلى إشاعة ثقافة اللاجدوى والنكران لمكونات الذات الفلسطينية، مما أسهم في إفراز حالة سلبية يائسة خارجة عن الأُطر بلا أفق وطني؛ مما يجعل إمكانية الانصهار من جديد واحترام الآخر وتقبله مَهمة صعبة تتطلب تنازلات من كافة الأطراف، بين مَن يرى التوافق في التنازل عن الفصائلية أو مَن يرى الحد الأدنى قبول المكونات كما هي.
في الفترة من 2007م إلى يومنا هذا؛ عملت أجهزة السلطة الفلسطينية باستمرار على استهداف أي حصانة يمكن أن تمثلها عائلة لفرد تحاربه الأجهزة على أساس الانتماء السياسي، فلم يعد هناك كلمة لكبير العائلة ولا لوجوه إصلاح، ثم صعدت من ثمن التعاطي مع مَن تحاربه موغلة في خلق حالة من القطيعة بين أبناء العائلة الواحدة، وأبناء الفصيل الواحد، من خلال سياسة دفع الثمن والتي ينتهجها الاحتلال أيضًا في ردع المقاومة، وهذا القمع والاستهداف يركز على الجماعات الإسلامية؛ حماس والجهاد، وبدرجة أقل اليسار وحزب التحرير، كما أخذ الاستهداف شكل تحميل مسؤولية مشاكل المجتمع كلها إلى حركة دون غيرها؛ كثمن لنتائج انتخابات التشريعي عام 2006م.
في الفترة من 2007 إلى يومنا هذا؛ عملت أجهزة السلطة باستمرار على استهداف أي حصانة يمكن أن تمثلها عائلة لفرد تحاربه الأجهزة على أساس الانتماء السياسي
مع توقف العمل الفصائلي الحقيقي في أوساط محافظات الضفة الغربية، ورغم عودة حركة حماس للشارع بشكل متصاعد منذ 2010م إلى اليوم؛ إلى أن ذلك الفراغ الناشئ عن التغييب القسري للجميع؛ أنتج جيلًا لا يقدر العمل العام، وينظر للجميع بعين الشك، والريبة، واللاجدوى، ونظرة اتهام بالقصور والفوقية، ليس تقييمًا قائمًا على التامل والبحث والتفكير، ولكنه رد فعل يطوي على كثير من التسطيح والجهل والحكم القاصر والاجتزاء أو التعميم وذلك ينبئ عن قصور في التفكير مهما تظلل بدعاوٍ ثقافية أو اعتداد بالذات أو تنصل من الشراكة في المسؤولية أمام المجتمع.
في هذا الواقع يأتي الحديث عن الانتخابات المحلية لعام 2016م.
انتخابات 2016م - منذ الإعلان حتى الترشح
منذ اللحظة التي أُعلن فيها عن الثامن من تشرين أول موعدًا لإجراء الانتخابات المحلية في فلسطين؛ الضفة الغربية وغزة وضواحي القدس المحتلة، والشارع الفلسطيني منشغل في قراءة الحدث وعلى كل المستويات، حول مَن سيشارك وكيف وآليات ذلك، وبين مؤيد ومعارض ولا مبالٍ، وتتصدر مواقع التواصل الاجتماعي ساحة المتابعة والجدال أو الحوار، كبديل إلى حد ما للاجتماعات والندوات والمقاهي التي اعتادها الشعب لتبادل أطراف الحديث.
بعد شهر من تحديد موعد الانتخابات المحلية؛ أعلنت حركة حماس موقفها من المشاركة والذي اقتضى بأنها ستشارك داعمة لمن ترى فيه الكفاءة والمهنية، دون رسم لمعالم دقيقة حول هذا الدعم، وإن كانت ستقدم قوائم واضحة أم ستسعى للتوافق أم ستنتظر الكشف عن المرشحين لتصطف خلف إحدى القوائم.
موقف حركة حماس أربك الكثير من الحسابات على الصعيد المحلي وخاصة الفصائل، فلم تكن تتوقع حركة فتح هذا الموقف من حركة اعتزلت المشاركة في الانتخابات المحلية منذ عام 2007م، وذلك في الضفة الغربية تحت ضغط القمع والترهيب والتهديد، فكان الموقف الإيجابي يشمل غزة والضفة معًا مع الفوارق التي تفرضها طبيعة المواقع.
هذه المرة يتوجب على حركة فتح أن تخوض منافسة كانت تحسب أنها محسومة منذ البداية، وتقبل تغير المعادلة في الواقع المحلي أمر عسير بعد اعتياد التفرد، فما كان منها إلا الانتقال لمرحلة احتواء الخصم، أو إقصائه والتخلص منه
هذه المرة يتوجب على حركة فتح أن تخوض منافسة كانت تحسب أنها محسومة منذ البداية، وتقبل تغير المعادلة في الواقع المحلي أمر عسير بعد اعتياد التفرد، فما كان منها إلا الانتقال لمرحلة احتواء الخصم، أو إقصائه والتخلص منه، أو محاربته، وهذه الخيارات الثلاثة لم تكن على التوالي، بل استخدمت ثلاثتها معًا في كل موقع بحسب ما اقتضته المصلحة من وجهة نظرهم.
فأما الاحتواء فكان من خلال محاولات التوافق مع بقية الفصائل وعلى رأسها حماس، ولكنها كانت تسعى لتوافق يرضي كبريائها فلا تقبل بفارق المقعد بل تريد فارقًا أكبر من ثلاثة مقاعد إلى خمسة، واستخدمت في ذلك التهديد بالاعتقال من خلال الاتصال الهاتفي، والاستدعاء للمقرات، والتهديد بإطلاق النار، وحتى اللحظة الأخيرة لتسجيل القوائم فإنها مارست التهديد عبر الهاتف، وصل الأمر بالأجهزة الأمنية التدخل لدى بعض البلديات لمنع منح بعض المرشحين براءات ذمة، وعلى غرار الاتصالات الهاتفية من قِبل أجهزة السلطة للتهديد؛ تم الاتصال بعدد من المرشحين أو المتوقع ترشحهم من مخابرات الاحتلال أو تم استدعاؤهم للمقابلة في مراكز جيش الاحتلال الصهيوني.
أما الفترة التي سبقت تقديم القوائم استخدمت الإشاعة للتحريض على حركة حماس ومشاركتها من خلال وسائل الإعلام المختلفة وخاصة الإلكترونية، ومن ثم توزيع البيانات الملفقة.
أزمات كشف عنها التحضير للانتخابات
أولًا: مع مشاركة حماس غير الواضحة للجمهور، ومقاطعة حركة الجهاد الإسلامي، وحضور بقية الفصائل، انكشفت من جهة عورات هذه الفصائل التي كان الوقت لها طوال الأعوام الماضية متاحًا لتكون أفضل؛ إلا أن الواقع يقول إن حماس لم تتضرر وحدها من تغييبها عن الساحة؛ فإن غياب المنافسة الحقيقية لسنوات عدة، وانكفاء عدد من الفصائل على ذاتها، وما سبق توضيحه أعلاه حول استهداف ثقافة التنظيم في المجتمع؛ أثبت أن ضريبة الانقطاع والتغييب القسري لأحد مكونات المجتمع الفلسطيني يدفع ثمنه الجميع بمستويات مختلفة وليس أقله أن تتأثر أوزان التنظيمات وحضورها الفعلي، إلى جانب الكشف عن أزماتها الداخلية.
ضريبة الانقطاع والتغييب القسري لأحد مكونات المجتمع يدفع ثمنه الجميع بمستويات مختلفة وليس أقله أن تتأثر أوزان التنظيمات وحضورها الفعلي، إلى جانب الكشف عن أزماتها الداخلية
ثانيًا: غياب ثقافة التنظيم؛ أعاد المنافسة العشائرية إلى الواجهة، وهي من بقايا الجاهلية، ولكنها لم تغب يومًا عن ساحة المجتمع العربي، وهي إلى حد ما حاضرة اسمًا وغائبة جوهرًا تُستدعى بحسب الحاجة والهوى، وليس بالضرورة أن يكون للعشيرة كلمة فصل ولكنه تجييش لاجتياز مرحلة.
فإن لم توجد قوة أولى تحمي المجتمع فإنه يعود باحثًا عن حضنه الأول المتمثل بعشيرته، وهذا التجاء لا يخلو من غلو وحقد وإثارة لنعرات لم يقف في وجهها إلا الدين حين حجمها وجعلها لا شيء وزنًا أمام التقوى، ومن ثم الفصائل والتنظيمات التي شكل بعضها حواضن فكرية ومناهج ساهمت إلى حد ما في صرف الطاقة الموجهة إلى العشيرة لشيء أكثر نفعًا وصقلًا لشخصية وفكر صاحبه، ولكن مع هذا الغياب فإن الحكم يعود لشريعة التنافس القبلي الذي لا يخلو من جهالة، فالعائلات التي لم تحمي ظهور أبنائها من سياط الأجهزة الأمنية الآن تجتمع لأجل العشيرة، والعائلات التي لم تنصف أحد أبنائها للفكر الذي يحمله تعمل على حمل العصا من المنتصف لتجمع الجميع تحت شعار العائلة، وكأنها حرب ثأر تستنفر رجال كل قبيلة دون نظر لفهم ولا دين ولا كفاءة، والأذكى قليلًا حرص تحت لواء العشيرة أن يجمع الكفاءة العلمية والسلم التنظيمي إلى قائمته؛ لا لشيء إلا ليجعل حظوته بالانتصار أعلى من غيره، وكأننا أمام حرب داحس والغبراء!
ثالثًا: حرب المصطلحات؛ فاختلاف التأويل للمفردات: كفاءة، مهنية، علمية، مستقلة، وترك مراميها مفتوحة دون تأطير جعل لكل تأويله الخاص، ومقاصده، فهناك مَن رأى الكفاءة في الجاه العائلي، أو الثروة المالية، أو النفوذ السياسي، أو الدرجة العلمية كلقب، وهناك مَن صدق مصطلح المستقل فيما كل القوائم التي سُجلت تحت مسمى مستقل لها في حقيقة الأمر توجهات سياسية وقبلية يعرفها أبناؤها ومحيطهم.
رابعًا: اللجوء للتوافق كشف أزمة التعددية وقبول الآخر، وحظوظ النفس، والحرص على المكاسب، فيما الشعارات المطلقة تتحدث عن المشاركة فقط، فمن البداية لجأت حركة حماس للتوافق مع اليسار أو فتح في محاولة للخروج من حالة الشقاق والانقسام ليتقدم المجتمع الفلسطيني خطوة، وفي محاولة أيضًا للخروج من شرنقة الانعزال بمشاركة مجتمعية تحت عنواني الكفاءة والمهنية ولم تحدد لذلك شكلًا، فيما سعت حركة فتح للتوافق لأسباب؛ كوسيلة ضغط على المختلفين داخلها، أو في محاولة للوصول السلمي لقيادة البلدية وجعل بقية الراغبين بالمشاركة تحت لوائها، ولكنها في ظل حرصها الشديد على التقدم بفارق كبير عن منافسيها خلال التفاوض للتوافق لم تنجح في تحقيقه، أما بقية الفصائل فإن لجوءها لقبول التوافق يعزز من فرص فوزها وخاصة في ظل أوزانها المتراجعة.
خامسًا: أزمات إدارية؛ حيث اشترك غالبية الجهات المتقدمة للترشح بثقافة (اللحظة الأخيرة)، وهي ثقافة تصنع أزمة، كما تعبر عن وجودها، باستثناء الذين تعمدوا تضييع أوقات المتفاوضين معهم بحيث لا يتبقى لديهم وقت لحل بديل، وهذا أيضًا يعبر عن سذاجة الطرف الثاني وسوء إدارته للوقت المتوفر لديه، فأن تبقى إلى اللحظة الأخيرة أي أنك لا تفكر بالاحتمالات الطارئة، وتفرط في الثقة بخصمك، ولا تملك القدرة على تقدير الوقت اللازم لكل مرحلة، سواء التشكيل بالتوافق، أو التشكيل المنفرد والبحث عن خيارات بديلة، أو التسجيل وما يسبقه من خطوات وما يرافقه، أمام هذه الحالة فإن من أحسن إدارة خطواته هو من جعل خطة زمنية لكل مرحلة، وغالب هؤلاء الناجحين يمتلكون بشكل مسبق خبرة إدارية أو دراية في إجراءات العملية الانتخابية والتفاوض مع الطرف الآخر أو خبرة سياسية، ومن افتقر إلى ذلك أو اعتمد على البركة أو الدقيقة الأخيرة لم ينجح.
الشخص أو الجهة التي تغيب فترة زمنية عن المجتمع؛ تفقد مع كل فترة أو عام شيئًا من وزنها العام، ويتمثل ذلك في أن يجهلك الجمهور وخاصة الجديد، وينساك الجمهور القديم
سادسًا: غياب فهم موقع الفرد أو العائلة أو الفصيل من خريطة الواقع، فإن الشخص أو الجهة التي تغيب فترة زمنية عن المجتمع، أو تغيِّب ذاتها؛ تفقد مع كل فترة أو عام شيئًا من وزنها العام، ويتمثل ذلك في أن يجهلك الجمهور وخاصة الجديد، وينساك الجمهور القديم، فأنت غير قريب من ذهنه بإنجازات أو حضور أو عمل فكيف تفترض احتفاظك بوزنك؟ هذا ما أخطأ البعض في تقديره؛ فيعاني من صدمة ناتجة عن الغياب أو التغييب، فإما يتجنب الاستمرار، أو يبحث عن الجديد الأقرب الذي حل بشكل أو بآخر أمام صورته، والتعويض عن الغياب لا يأتي إلا بدوام الحضور، والحضور بقوة، وقد يأخذ الترميم أو البناء من جديد وقتًا طويلًا ولكنه الدرس الأقسى لمن يُغيَّب ثم يظن أن الحياة توقفت تنتظره.
سابعًا: غول الخوف والمصالح الشخصية، ففي الوقت الذي تسبب الخوف في تراجع الكثيرين عن الترشح سواء تحت التهديد أو كرد فعل على تجربة قديمة؛ فإن الأزمة الحقيقية كانت في البحث عن (الأنا) ومصالحها ومحاولة انتهاز عروض الترشح إلى الدرجة القصوى، سواء بالبحث عن المكانة الاجتماعية كالتنازع على الرئاسة (رقم 1) في كل قائمة، أو اشتراط تسديد الديون الفردية للبلدية، أو الانتقام باشتراط الترشح مقابل طرد آخر أو من خلال الاعتراض على وجود آخرين، أو الانسحاب من قائمة والنزول في أخرى نكاية بالأولى أو بالتنظيم، وكأنها ساحة تصفية حسابات عائلية أو فئوية.
ثامنًا: الخطاب القديم، وهذا ظهر جليًا في تسمية قوائم حركة فتح، والتي ركزت على البُعد العاطفي رغم أنها حركة عملت طوال الأعوام الماضية لجعل هذا الخطاب فارغًا حين كان يصدر من غيرها، وهذا يدلل على أزمة التقادم لديها.
الخلاصة:
التغير في المجتمع الفلسطيني دائر والمرحلة الحالية جزء من مرحلة كبرى، والتغيرات يقرؤها كلٌ وفقًا لمحدداته، ولكن في الصورة الكلية فإن التغير يُجبر على الانفتاح على الخيارات الأوسع؛ والخاسر من يُصر على تغييب الجميع لصالحه أو لا يرى غير نفسه
المعركة الحقيقية في الانتخابات في جزء كبير منها انتهت، ولا يمكن قراءة نتائجها على أساس فصائلي أو عشائري أو توافقي فقط، فالفريق الذي حرص على تغييب الصيغة الفصائلي يريدها حقيقة معركة فصائلية يتوج الفائز فيها وحده، ولكن من لا يقرأ الواقع فهو أعمى، فالتغير في المجتمع الفلسطيني دائر والمرحلة الحالية جزء من مرحلة كبرى، والتغيرات يقرؤها كلٌ وفقًا لمحدداته، ولكن في الصورة الكلية فإن التغير يُجبر على الانفتاح على الخيارات الأوسع؛ والخاسر من يُصر على تغييب الجميع لصالحه أو لا يرى غير نفسه.
وأقصد هنا تغير تركيبة المجتمع الفلسطيني والخيارات التي يختارها لنفسه؛ في محاولة تشكيل قيادة مجتمعية تنحاز لحقوقه، نعم لم تفضي الأحداث التي جرت في الضفة من احتجاجات على الغلاء وحقوق المعلمين والضمان الاجتماعي وغيرها من تحركات إلى نتائجها الطبيعية بالحصول على ما خرجت لأجله، وتم احتواء التحركات دون أي معالجات جذرية؛ مما يعني أنه في مرحلة لاحقة ستُستأنف كافة أشكال التحرك ولمختلف القضايا، ويتغير الوجه الحاكم كنظام بالرضى أو بالقوة، أمام هكذا صورة فإن مَن يصر على خطاب فرعون (أنا ربكم الأعلى) دون أي محاولة للتدرب على تقبل تداول السلطة والحضور المجتمعي فسينتهي أمره بعد حين، خاصة في ظل توقعات التصعيد المحتمل كمحاربة للمشاركين في قوائم الترشح من قِبل الاحتلال وأجهزة السلطة والخارجين على القانون الذين لم يتم القضاء على تمردهم.