كانت خطواتي الأولى في كلية العلوم في جامعة قطر، ولم أكن قد حسمت أمري بعد في اختيار التخصص الذي سوف يشغل حيزاً كبيراً من كياني واهتماماتي ومسار عملي وحياتي، إنه اللاحقة التي ستلازم اسمي وسيرتي الذاتية في كل تعريف لي أمام الآخرين مستقبلاً.
كان الأمر صعباً على غرٍّ لم تصقله الحياة ولم يبصر من كوة الزمن ما يعينه على إزالة التردد والحيرة وقررت حينها الاستسلام لمقادير الزمن لتفصل بين اتجاهي نحو الجيولوجيا (علم الأرض) الذي استهواني فيه علم الفلك والبلورات، وبين الكيمياء التي رافقني عشق فرع علم الكيمياء العضوية منها إلى الجامعة فمذ عرفته في الثانوية وشعوري وأنا أغوص بين مواده ومعادلاته لم يكن ليختلف كثيراً عن شعور طفل وضعه أبويه بين الآلاف من قطع لعبة مكعبات البناء "الليجو" الملونة ليقوم بتركيب نماذج وألعاب منها!!
كل ما أذكره هو أنني جلست في المقاعد الأولى لمحاضرة رئيس قسم الكيمياء في الجامعة ليعطينا مادة الكيمياء العضوية وإذ به يستهل حديثه عن علاقة نكبة فلسطين بالكيمياء!!
كان أسلوبه مشوقاً جداً ولم أكن أتخيل للحظة واحدة أنني سأستمع من دكاترة الكيمياء شيئاً آخر غير الأيونات والروابط الكيميائية والمركبات وتفاعلاتها، وهو ما جعلني أصغي له بكل حواسي ومشاعري، وكان مما قاله لنا أن "حاييم وايزمان" (1874 -1952) والذي صار فيما بعد أول رئيس للكيان الصهيوني من الفترة (1949-1952)، عمل قبل ذلك محاضراً في الكيمياء العضوية بإنجلترا قبيل الحرب العالمية الأولى وذلك بجامعة "مانشستر"، وكانت له بحوث عديدة في الكيمياء أغدقت عليه الكثير من المال. ولما اندلعت نيران الحرب العالميه الأولى كان يعمل في مختبرات البحرية البريطانية، وهناك تمكّن من تحضير كحول الجلسرول أو ما يطلق عليه أيضاً بالجلسرين، وقام بإنتاجه بطريقة اقتصادية عن طريق تخمير السكر، واحتاجت بريطانيا ممثلة في رئيس حكومتها آنذاك "لويد جورج" إلى معرفه سر تحضير الجلسرول الذي كان مهماً لتصنيع مركب "تراي نيترو جلسرين" وهو شديد الحساسية للصدمات والارتجاج، شديد الانفجار وهو أساس مركب الديناميت. ومن ثم عرض على "وايزمان" شراؤه بما يرتضي من مقابل. ولم يطلب ذلك العالم الصهيوني مالاً ولا جاهاً، لكنه اشترط على "لويد جورج" أن يكون ثمن بيع سر التحضير هو وعد بإقامة كيان يهودي في فلسطين! فما كان من الأخير إلا أن أحضر وزير خارجيته "آرثر بلفور" لتتم الصفقة المشؤومة: وعد بلفور مقابل أسرار عملية تخمير السكر لإنتاج الجلسرين!!
لم أتردد بعدها لحظة واحدة في اختيار تخصص الكيمياء بعد تلك الجرعة المستفزة جداً والتي شعرت من خلالها أن أعداءنا تفوقوا فيها علينا بالعلم ونالوا بغيتهم من خلال سبر أغواره وتسخيره لمآربهم، ولا عجب فالجلسرول هو المركب الأساسي في صناعة الصابون غير أنهم لطبيعتهم المتأصلة في إشعال الحروب وإذكائها لم يكن يعنيهم ذلك فأوصلتهم أبحاثهم إلى تحويل ذلك المركب الوادع إلى مركب موت وقتل ودمار!!
كنا نأمل أن يطلع من بين أبناء هذه الأمة من يحمل بين جنباته ولاء وإخلاصاً وتفانياً لها، يقابل ما بدر من الكيميائي وايزمان تجاه بني ملته، وما جرى مع الكيميائي العربي الشهير أحمد زويل كان مؤسفاً ومخزياً حقاً ومخيباً للآمال، فالرجل اختار أن يبدأ مشواره بطرق أبواب الشهرة عبر البوابة الصهيونية، فعمل محاضراً في جامعة تل أبيب بحجة أن (العلم لا وطن له وأنه لا سياسة في العلم ولا علم في السياسة) حسب مقولة بائسة نسبت إليه، وكوفئ على إسهاماته العلمية في تطوير منظومة صواريخ جيش العدو بمنحه جائزة "وولف برايز" عام 1993 وهي أعلي جائزة علمية في الكيان الصهيوني وقيمتها 100 ألف دولار، والمفارقة المؤلمة أنه كان قد عمل باحثاً في معهد (وايزمان) ذي الصلة الوثيقة بالجيش الصهيوني قبلها، وأن الذي سلمه الجائزة في الكنيست الصهيوني كان عزرا (وايزمان) وزير دفاع العدو سابقاً والذي تقلد أيضاً منصب رئاسة الكيان الصهيوني فيما بعد!!
شهدنا تقليد أحمد زويل وسام نوبل غير أنه لم يعْدُ كونه مجداً شخصياً له ولم تستفد الأمة منه بشيء، أما مدينة زويل العلمية التي حملت اسمه فكل ما يعرف عنها المواطن المصري ذلك الجدل الذي رافق إنشاءها حول تعديها على أراضي ومقرات جامعة النيل.. ولم أقف على شيء مكتوب أو مسموع عن أنها أضافت شيئاً للمسيرة العلمية في مصر أو المنطقة العربية، ولا عجب فقد ارتبطت شؤونها بمقاييس الولاء والمحسوبية لأجهزة الحكم القمعية، والتي سوّغت لزويل أن يكيل المديح الاستثنائي لمجرم العصر السيسي بأنه "رجل مواقف وأفعال"، وتسويقه لمشاريعه السخيفة الفارغة الفاشلة البائسة كمشروع تفريعة قناة السويس، فضلاً عن تسويقه له كرئيس شرعي، وإسباغ الشرعية على انقلابه العسكري، وانتقاده الغرب لتضييعه الوقت –كما جاء في كتاباته ولقاءاته الإعلامية- في توصيف ما جرى يوم 30 يونيو بالثورة أم الانقلاب، فالكل (رأى وأبصر الملايين تخرج إلى الشوارع في ذلك اليوم) حسب وصفه..
وللمفارقة فأحمد زويل كان قد حاز على جائزة نوبل عن ابتكاره نظام تصوير يرصد حركة الجزيئات وما يحصل خلال التفاعلات الكيميائية من خلال تسليط أشعة الليزر على التفاعلات وتصويرها بكاميرات دقيقة تمكنت من التقاط ما يحدث في جزء من مليون مليار جزء من الثانية (فيمتو ثانية)!!
إنه -ويا للسخرية- أبصر حركة الجزيئات ولم يبصر ببصره أو بصيرته دماء آلاف المصريين وهي تسفك في الميادين والمعتقلات، كما لم يبصر الخدع البصرية التي استخدمها السيسي وأعوانه لتمرير مهزلة 30 يونيو وملايينها الوهمية..
رحل أحمد زويل وشغل الشارع بمعادلة هل نترحم عليه بوصفه عالم له إسهاماته العلمية؟ أم نذمه بسبب مواقفه السياسية؟ وهل استفادت الأمة من تلك الإسهامات والمكتشفات أم أنها كانت لخدمة أعدائها وتطوير أسلحتهم التي يقتلوننا بها؟
هل أزال زويل آلام شعبه أم رش عليها الملح في الفترة القصيرة التي أطلّ فيها عليهم؟
هل عمل زويل على إزالة دولة الكيان الصهيوني أم أنه كان مدماكاً في بنيانها؟