إذا كانت موازينُ بعضِ النَّاس تحكمها اليومَ قِيَمُ المال والجاه والسلطان، وتؤثّر فيها عمليات البيع والشراء صعوداً ونزولاً، فإنَّ ميزاني الذي لا يقبل التطفيف تحكمه قيمةُ الحرف الذي يملكه النَّاس، فيكبر الصغير بما يحمله من قيمته، ويصغر الكبير بما يضيع عنه من قيمته، وقد قيل قديماً: "المرء مخبوءٌ تحت طيّ لسانه وليس تحت طيلسانه". فقيمة المرء بما يعبّر عنه لسانه من حروف وكلمات.
كانت العرب قديماً تفاخر بمن يمتلكون هذه القيمة المعنوية، وتصنع لهم الأندية للمنافسة والتكريم والتقديم، ففكرة الاحتفال بمن يصنعون من حروفهم بيوتاً يستأنس بظلها النّاس، وركناً شديداً يأوي إليه المتعطّشون ويستلهمون منه.. فكرة أصيلة في تاريخنا وحضارتنا، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحبّنا العميق للغة العربية.
أرى أنَّ الكتابة بمختلف أوعيتها في عصرنا الحديث هي في الأصل امتدادٌ لذلك التاريخ الناصع لاهتمام الأمَّة باللغة العربية وعلومها حفظاً ورواية ودراية، تلك اللغة المحفوظة بحفظ الله لها، وبحفظ ذلك المَعين الذي لا ينضب في آياته وهداياته.. فميادين وأوعية الكتابة والتأليف والتدوين التي تستلهم ذلك التاريخ، وتستقي من مَعين الضاد، فإنَّها لن تذبل، بل تزهرُ بالحياة..
وأيّ حياة يعيشها المرءُ في بحر لا ساحلَ له، تموجُ فيه حروفُ الضّاد، تنتظر من يغوصُ .. باحثاً محبّاً عاشقاً يستلهمُ من صدفاته ودرره معاني العزّة والحريّة لينثرها حيّة تنبض بالحياة .. حروفُ الضاد كنزٌ لمن خَبر قيمته وحافظ على نصاعته، فلم يلوّثها بدخيل أو لحن أو غريب .. وأدرك خطورته وتأثيره، فلم يستخدمها آلة لتشويه أو طمس ومعولاً للهدم والتغريب..
أن تكون صاحبَ مبدأ وفكرة، فتمضي في صناعة حروفك وصياغتها حرّاً تتحمّل عواقب الكلمة ومآلاتها
في تاريخنا وحاضرنا الكثيرون الذين يمتلكون ناصية الحروف، فتراهم يطوّعونه كلٌّ حسب ميوله الشخصي وأهوائه، وربّما لمآرب وأهداف تُملي عليه ويتقاضى من جرّائها خرْجاً من هنا وهناك، بعد أن يقدّم بضاعته على الناس كما يريدها المموّل لا كما يريدها هو!
أن تكون صاحبَ مبدأ وفكرة، فتمضي في صناعة حروفك وصياغتها حرّاً تتحمّل عواقب الكلمة ومآلاتها، أميناً لتلك الحروف المستودعة في خلدك وذاكرتك، خادماً لأمّتك وتاريخها ولغتها وفكرها وحضارتها، صادقاً في نقل صورة الواقع والتعبير عنها، فتلك لعمري هي الحياة؛ حياة لك ولمن يقرأ لك وحياة أخرى لتدويناتك.
حروفُ الضاد كنزٌ لمن خَبر قيمته وحافظ على نصاعته، فلم يلوّثها بدخيل أو لحن أو غريب
أمَّا أن تبيعَ حروفك في سوق لا يرحمُ روّادَه وزائريه، يتقاذفهم بحرٌ لجيٌّ متلاطمة أمواجُه بالأهواء وألوان الشهرة وبريق الألقاب، وتتعارك أقلامهم في مستنقع آسن يهتف للسُّلطان ويمجّد العسكر ورجال الأمن والشرطة والمال، حيث أصحاب الأفكار متّهمون بالتآمر والتخابر تارة وبقلب الأنظمة وبالإرهاب تارة أخرى.. فتلك لعمري حياة وأيّ حياة يحرصون عليها.. حياة نكرة ذليلة مهينة تافهة!
أمّا أنا، فحروفي ليست للبيع!