لم يستطع حكام و جنرالات الولايات الأمريكية المتحدة الصمت طويلا على ما حدث في تركيا، حتى بدأت تصريحاتهم المنطلقة من جهات عدة تظهر حقيقة الموقف الأمريكي من الانقلاب الفاشل على السلطة الشرعية المنتخبة من الشعب التركي.
حيث بدأت هذه التصريحات من الجهات السياسة الأمريكية بنفي الاتهامات التركية لها بمساندة الانقلاب قبل أن تتم هذه الاتهامات. ثم جاءت التصريحات التي تطالب الحكومة التركية بمراعاة حقوق الإنسان وعدم استغلال هذا الانقلاب الفاشل في فرض الإجراءات الدكتاتورية التي تنتهك الحريات وتضر بالنظام الديموقراطي، ولكن أبرز هذه التصريحات جاءت من بعض الجنرالات الأمريكان الذي أعربوا عن أسفهم من اعتقال أصدقائهم من الجنرالات الأتراك الذين كانوا يتعاونون معهم في مكافحة الإرهاب.
وفي سياق متصل فإن الموقف الأوروبي لم يكن بعيدا عن الموقف الأمريكي، فألمانيا منذ اللحظة الأولى اعتبرت أن إعادة العمل بحكم الإعدام يعني انتهاء المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والأتراك، فيما لم تتأخر فرنسا باعتبارها أن محاولة الانقلاب لا تعطي للحكام الأتراك صكا مفتوحا في الإجراءات المتبعة للقضاء عليه، وكذلك فان إجمال الموقف الأوروبي كان ممتعضاً من فشل الانقلاب وإن أدانه بعبارات باهته، وأيضا لابد من الإشارة إلى مواقف بعض الأطراف العربية والإسلامية التي لم تستطع كتم شعورها بالفرح في بدايات محاولات الانقلاب الفاشل، وآثرت الإفصاح عما بداخلها قبل أن تتضح معالم المشهد في تركيا.
الموقف الأوروبي كان ممتعضاً من فشل الانقلاب وإن أدانه بعبارات باهته
وتأتي كل هذه المواقف من أطراف عديدة غربية وعربية في إجماع على ضرب التجربة الديموقراطية التركية، وخصوصا ضرب حزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإسلامية، منسجمة مع الإعلان الأول لقادة الانقلاب الفاشل حين أكدوا في بيانهم الذي أذيع عنوة من على إذاعة "تي آر تي" الرسمية، أن هذا الانقلاب جاء لحماية العلمانية التي تضررت بعمل حكم حزب العدالة والتنمية، وأكدوا على أن العلاقات الخارجية لن تتأثر، وأنهم يحترمون كل الاتفاقيات والعلاقات مع الخارج.
وهنا يبرز السؤال، ما الذي كان يمكن أن يحصل لو نجح الانقلاب؟ ولماذا هذا الانقلاب؟
يمكن القول أنه وبعد تدمير العراق من أكثر من عشر سنين، ثم سوريا التي تبعتها منذ حوالي خمس سنين، ناهيك عن الحرب في اليمن وليبيا والتحديات الداخلية في تونس، والانقلاب العسكري على السلطة الشرعية في دولة مصر، ثم ما تبعها من تتدجين وتوريط إيران في المستنقع السوري، فإنه لم يبق سوى الدولة التركية في منطقة الشرق الأوسط تسير خارج الهوى الأمريكي والصهيوني برغم العلاقات العامة مع تلك الدول، فهناك دول عديدة عربية وإسلامية تدعي العداء لأمريكا في العلن، لكنها تقيم معها علاقات تبعية ودونية من خلف الكواليس. وهذا ما أظهر تمايز السياسة الخارجية للدولة التركية، حيث إنها تقيم علاقات خارجية مع كل الأطراف الدولية على أساس من الندية و المصالح المشتركة والاحترام المتبادل وليس على أساس التبعية والدونية.
الدولة التركية تقيم علاقات خارجية مع كل الأطراف الدولية على أساس من الندية و المصالح المشتركة والاحترام المتبادل وليس على أساس التبعية والدونية
ولو أجرينا مسحا بسيطا للمواقف التركية الخارجية تجاه العديد من القضايا العربية والإسلامية، لوجدنا أن الدولة التركية تتصدر الدعم والإسناد، والوقوف إلى جانب القضايا العادلة للشعوب العربية والإسلامية، ابتداء من الدعم المتواصل للقضية الفلسطينية من خلال العمل على فك الحصار على قطاع غزة، ودعم السلطة الفلسطينية سياساً في المحافل الرسمية، كما أنها تقف إلى جانب الشعب السوري المهجر من أرضه وتستوعب الملايين من السوريين على أرضها، في حين أغلقت العديد من العواصم العربية الباب أمام إخوتهم السوريين. إضافة إلى الوقوف مع الشرعية في دولة مصر ضد الانقلاب العسكري المدعوم غربيا وعربياً، ناهيك عن العديد من القضايا الأسلامية المختلفة.
لكن أبرز ما يمكن الإشارة إليه في حال نجح الانقلاب، فإن هذا يعني أن الشرق الأوسط سيصبح كعكة دسمة، سهلة التقسيم طيبة المذاق أمام العالم الغربي، ويبدو أن أهم الملفات التي كانت بالانتظار للبت فيها تقسيم سوريا والعراق، وتاليها إنهاء الحلم الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية على أراضي العام 1967 حسب الاتفاقيات المفترضة، لأنه حينها سيكون على العرب أجمعين مفاوضين ومقاومين أن يسلموا بالواقع الجديد الذي عنوانه "إسرائيل" سيدة الشرق الأوسط الجديد.
إن المؤامرة على الأمة العربية والإسلامية لا تستثني أحدا، فكل واحد منهم عدو ما لم يدر في الفلك الأمريكي الصهيوني
إن المؤامرة على الأمة العربية والإسلامية لا تستثني أحدا، سواء كان إسلاميا أو علمانيا أو ليبراليا أو يساريا، فكل واحد منهم عدو ما لم يدر في الفلك الأمريكي الصهيوني.
وإن على العقلاء من هذه الأمة أخذ العبر، وإن فشل الانقلاب العسكري في تركيا والذي كان أكثر دموية من أي انقلاب سابق يدلل على حجم المؤامرة على العالم العربي والإسلامي، و القسوة التي يتعامل الأعداء بها مع أمتنا. ويظهر مدى وحجم طبيعة التخطيط والمكر الذي يحاك لهذه الأمة، وهذا يستدعي من الأطراف العربية والإسلامية أن تصبح على قدر المسؤولية، وأن تقدم ما تتفق عليه مع بعضها البعض، وأن تنحّي قضايا الخلاف جانبا، وأن تبدأ بالعمل نحو مستقبل أفضل لهذه الأمة، وأن تستفيد من تجارب الأمم والشعوب التي تحيط بها.