"علماء السلاطين" تسمية تطلق على شريحة من "العلماء" يستميلها الحاكم من أجل توفير غطاء "ديني" لممارساته، فيفتون حسب أهواء الحاكم ويبيحون ما فيه مصلحته، متخذين من قاعدة دفع الضرر حجّة لهم، وينتقون من الآيات والأحاديث ما يتناسب مع مصالح حكامهم..
هم بلاء على الأمة بلا شك، وقد رأينا نماذج فجّة منهم في الحالة السورية والمصرية، حيث وفّر مفتو النظامين غطاءً "شرعياً" لقمع الشعب والتنكيل به.
ولطالما كان الخطاب الإسلامي في عصرنا الحاضر يتحدث عن هذه الفئة في معرض الاستنكار والذمّ حصراً، لسبب أن الحركات الإسلامية كانت دائماً في موقع المعارضة أو "الأقليّة المقموعة" من قبل النظام الحاكم، فهي تنتقد من يساعد هذا الحاكم على ظلمهم.
لكن الحال لم يعد كذلك في مرحلة ثورات الربيع العربي، حيث وصل الإسلاميون إلى السلطة (أو شاركوا فيها) في مصر وتونس وليبيا واليمن وقبلها غزة... السلطة الرئاسية أو الوزارية أو النيابية أو البلدية.
ومن الطبيعي أن يكون الشرع الإسلامي هو ضابط حركة المسؤول "الإسلامي" أو الحزب "الإسلامي"، في عمله الخدماتي أو السياسي أو الحزبي.
كما شكّل "علماء السلطان" ضرراً على الأمّة، فقد وجدنا في المقابل "علماء" – ولا نعمّم – يقيّدون حركة المسؤول ويخذّلون الناس حوله
لكن التجرية العملية كشفت واقعاً ما كان معروفاً، بحكم غياب الممارسة. فكما شكّل "علماء السلطان" ضرراً على الأمّة، فقد وجدنا في المقابل "علماء" – ولا نعمّم – يقيّدون حركة المسؤول ويخذّلون الناس حوله، لآراء متشددة يتبنّونها يريدون إلزام الآخرين بها، أو لعدم امتلاكهم فقه السياسة الشرعية، الذي يستند إلى قاعدة المصالح والمفاسد وفقه الموازنات.
وليس أعلى صوتاً من المنابر الدينية المستندة لآيات وأحاديث أسيء توظيفها، بهدف دعم رأي معيّن. فإذا بصوت بعض العلماء يتحوّل إلى آلة تهدم ما يسعى المسؤول لبنائه في مجتمع يعجّ بالمتناقضات والتحديات بل والمؤمرات على التجربة الإسلامية، ما يستدعي اجتهادات استثنائية، من منطلق أسوأ الضررين أو فقه الموازنات أو التدرج بالإصلاح، ناهيك عن الأخذ بالرخص.
ومن غرائب الأمور، أن تجد هذه الشريحة من "العلماء" تشيد بتجربة الرئيس التركي رجب أردوغان في الحكم، ويكادون أن ينصّبوه الخليفة المنتظر، ويندفعون إلى إسباغ عباءة الدين على حراكه السياسي وقراراته اليومية.. هم ينظرون إلى النتيجة، لكنهم لا ينظرون إلى الخطوات والمسار الذي اتبعه أردوغان حتى وصل إلى هذا التأييد الشعبي والإسلامي الكبير..
وأحسب أن الرئيس رجب أردوغان (المحسوب على التجربة الإسلامية) لو كان محكوماً بما كان محكوماً به الرئيس المصري الإسلامي محمد مرسي خلال ولايته، من مجموعات سلفيّة شريكة في القرار، ومفاهيم حركيّة نظرية لم تخضع لقانون التجريب، وفتاوى علمائيّة تقيّد حراكه السياسي.. لما وصل أردوغان إلى ما نراه اليوم!
لقد نشأنا في المحاضن التربوية على رفض مصطلح "رجال الدين"، ذلك أن المفهوم الشائع كان أن الإسلام "دين شامل لكل مناحي الحياة"، و"لا فصل لدينا بين الدين والسياسة"، و"الإسلام دين ودنيا".. لكن الممارسة أثبتت أن هذه الخلطة غير واقعية وغير عملية، حيث بات علماؤنا الأفاضل يفتون في السياسة والإعلام والاقتصاد والعلاقات الدولية، وهم غير أهل اختصاص في هذه المجالات المستجدّة، فإذا بفتاويهم تكبّل العمل: السياسي والإعلامي وغيره.
قد يقول قائل: لكن الشرع هو مرجعنا في جميع شؤون حياتنا، فكيف تلغي دورهم؟!
أقول: نعم صحيح لا خلاف في ذلك، الشرع هو مظلتنا وضابط حياتنا كلها، لكن لا يمكن لمن درس في الكتب القديمة أن يفتي في مسائل معاصرة تحتاج اجتهاداً منطلقاً من "فقه الواقع"، فكيف إذا كان يفتي في شأن خارج اختصاصه؟
إنّ على من يفتي في العمل العام لاسيما السياسي أن يكون محيطاً بعلم السياسة الشرعية، وعلى من يفتي في العمل الإعلامي أن يكون ملمّاً بعلوم الرسالة الإعلامية وأدواتها.. وهكذا
إنّ على من يفتي في العمل العام لاسيما السياسي أن يكون محيطاً بعلم السياسة الشرعية، وعلى من يفتي في العمل الإعلامي أن يكون ملمّاً بعلوم الرسالة الإعلامية وأدواتها.. وهكذا.
وبالتالي، أسمح لنفسي أن أجتهد وأقول: سادتنا المشايخ – وهنا أعمّم - معنيّون بالفتيا في القضايا المتعلقة بالشأن الديني (أحوال شخصية – عبادات...)، أما في الأمور التخصصيّة فلها أهل اجتهاد من خاصّة العلماء.
التجربة الإسلامية في السلطة (بمختلف مستوياتها) هي حديثة عهد، والممارسة تظهر ثغرات في شعارات كانت تُرفع قديماً، ولا أرى من العيب أن يعاد النظر فيها، ولعلّ الاجتهادات الأخيرة لزعيم حركة النهضة في تونس الشيخ راشد الغنوشي (فصل الدعوي عن السياسي) خير مثال على هذه المراجعات.
نسأل الله أن يقيّض لأصحاب التجربة الإسلامية في العمل الحزبي والسياسي علماء يكونون عوناً لهم، لا مخذّلاً عنهم.