الصور وعلاقتها بالمكان هي التي تسيطر على عملية تفكير بعض الناس، فهم يمتلكون قدرة عالية على التصور المكاني وقدرة الإدراك الثلاثي الأبعاد والإبداع الفني القائم على التخيل الخصب، يعرفون تماماً أين يجلسون، وكيف يرتبون أشياءهم الخاصة.
لكن ملاحظة مهمة إذا كنا جميعاً نمتلك نفس العقل، ونتمتع بنوع واحد من الذكاء، فيمكننا أن نعلّم الجميع الشيء نفسه بالطريقة نفسها، ونقيّمهم بنفس الطريقة، وسيكون ذلك أمراً عادلاً! ولكن بمجرد إدراكنا أن الناس لديهم أنواع مختلفة من العقول، وأنواع مختلفة من القوى، حيث بعض الأشخاص جيدون في التفكير المكاني، وبعضهم يتميز بالتفكير اللغوي، والبعض منطقيون للغاية، والبعض يحتاج إلى التعلم عن طريق التجربة واكتشاف الأشياء بتفاعلهم الخاص، عندها سندرك أن التعليم الذي يعامل الجميع بنفس الطريقة هو تعليم ظالم جداً.
بعد أسبوع من تجوالي في شوارع القاهرة خلال الزيارة الأولى لي ولصديقي في مصر قبل أربعة أعوام، كانت الشوارع دائماً تبدو مختلفة وغريبة، ومع ذلك لفت انتباهي سرعة تحديد اتجاهات الأماكن وحفظها من صديقي إبراهيم، مع أننا نخرج سوياً في غالب الأوقات، إنه يحفظ الاتجاهات تماماً، وإشارات المرور، ولافتات المحلات، ويعرف كم يبعد البيت الذي نقيم فيه من المكان الذي نقف عليه.
وذات يوم دخلت على غرفة شقيقتي الطالبة في الثانوية العامة، وجدتها مليئة بالفوضى، فالأوراق في كل مكان، والكتب بعضها مقلوبٌ على وجهه، وبعضها مفتوح في وسطه كوب من الماء كعلامة للصفحة، وكمبادرة شخصية مني رتبت بعضها، ووضعتها فوق بعض، جنَّ جنونها حين دخلت الغرفة وصرخت بصوت مرتفع: "من فعل هذا؟"... ظننت أني أساعدها في ترتيب أشيائها، لكنها شعرت بالضياع التام، ولم تستطع إيجاد أي شيء، لقد كانت تحفظ كل ورقة في مكانها، وكل صفحة مفتوحة أو مقلوبة وما وصلت إليه، وامتلاكها للذكاء البصري والمكاني الحاد أتاح لها أن تحصل على معدل 98.5% في الثانوية العامة.
تنمية الذكاء المكاني تبدأ من مرحلة الطفولة، بعد تدريب الأطفال على الرسم وتركيب المكعبات الصغيرة، وإتاحة الفرصة لهم لتوضيح ما يفكرون به، وما يدور بخيالهم على الورق
تنمية الذكاء المكاني تبدأ من مرحلة الطفولة، بعد تدريب الأطفال على الرسم وتركيب المكعبات الصغيرة، وإتاحة الفرصة لهم لتوضيح ما يفكرون به، وما يدور بخيالهم على الورق، وترك المجال لهم للجلوس أينما يريدون، والإجابة عن تساؤلاتهم الغريبة، وربط الإجابة بالرسم أو الفيديو أو الصورة، لتبقى عالقة في أذهانهم إمكانية التصور والتركيب.
وتعتمد تنمية الذكاء المكاني للطفل على تنمية خياله ولغته، وتدريبه على الحب لا الكراهية، وتذوق الجمال، ومتابعة فيديوهات الخيال العلمي بشكل دائم، ولأن الآباء مشغولون في العمل، فتقع المسؤولية الأكبر على الأم في البيت بمساعدة طفلها على تنمية قدراته العقلية وتنظيم أفكاره وتطويرها، وتهيئة طفلها لممارسة أساليب التفكير العلمي وتنمية الاتجاهات الايجابية فيه، وتعزيز قدرته في البحث عن المعارف؛ ليزداد ذكاء الطفل ويصبح مهيئاً للتفكير الابتكاري والإبداع.
أما فيما يتعلق بالتعامل السلوكي مع الطفل خصوصاً قبل مرحلة المدرسة، وهي المرحلة الصادمة للطفل إذ يتم برمجته للجلوس في مكان محددٍ، والذهاب والإياب في وقت محددٍ، والحديث والصمت بإذن مسبق، يجب التعامل مع الطفل بحرية أكثر، فالأطفال قبلها يكونون صفحة بيضاء، من وجهة نظرهم جميع الأشياء مخلوقات فضائية، أو غريبة، لذلك أهمية الإجابة على تساؤلاتهم تطلق عنان الذكاء المكاني لديهم، وتنمي تماماً غرف الخيال في العقل، وتفتح الآفاق للتفكير بالإجابات بطريقتهم الخاصة.
بعض أولياء الأمور يحاولون تعليم الأطفال بسلوكيات الكبار، فيسدون باب الإبداع لديهم، ويلتزم الطفل الصمت، فينحصر خياله
بعض أولياء الأمور يحاولون تعليم الأطفال بسلوكيات الكبار، فيسدون باب الإبداع لديهم، ويلتزم الطفل الصمت، فينحصر خياله، وبعض أولياء الأمور يستخدمون العقاب لقمع تصرفات من وجهة نظرهم غير مرغوبة، لكن الأطفال لا يعلمون ذلك، بل يجب توجيه الأطفال بقولبة السلوكيات الخاطئة لسلوكيات صحيحة، مثال الطفل الذي يمسك القلم فيملأ جدران المنزل "خرابيش" من وجهة أولياء الأمور سلوك يستدعي العقاب، لكن من وجهة علماء النفس سلوك محمود يستوجب التوجيه، إذ إن تعليق بعض الأوراق الخاصة بالرسم على الجدران، وتفريغ خيال الطفل عليها قد يضع حداً لسلوك غير مرغوب بتنمية عقلية مرغوبة.
بقاؤنا راغبين في الحث الدائم على تعديل سلوك الطفل يحد التفكير الاستراتيجي لديه، إذ إن السماء زرقاء يسبح فيها السحاب على هيئة حلوى سكرية، والنجوم طيور في الليل تتحرك، هي في عالم الطفل الخاص، أما في عالمنا كون منضبط تماماً بمخيلات أقل اتساعاً من مخيلة الطفل.
ختاماً للطفل عالمه الخاص، وعلينا عدم قولبته في عالمنا، ومن المبكر الحديث عن ضوابط قد تفرضها عليه الحياة مستقبلاً، بل الحديث عن لعب ورسم وخيال ليصبح طفلاً قادراً على التفكير، صانعاً للتغيير، قائداً في البناء والتعمير.