كان بإمكان معاوية أن يظفر بالخلافة لو أنه تحالف مع قيصر الروم ضد عليّ، لولا أنه كان على قدر من الوعي، جعله يرد: أخان وتشاجرا، فما بالك تدخل فيما بينهما.
هذا الفهم انطلق من واقع الإدراك لخطورة المكر في توسيع الشقاق، باعتباره وصفة للكارثة.
أهمية هذا الفهم تبرز اليوم مع اضطراب مواقع تمركز الإسلام، واقصد بهذه المواقع المنطقة العربية التي تتوه في خرائط الدم.
وليس مبالغة القول إن هذا التيه كان سببا في التباس الفهم، لدرجة أنه لم يعد بالضرورة أن تقود سهام العدو إلى الحق.
هذا الالتباس تزداد حدته بين فئة الشباب الحائر مثلا بين تأييد تنظيم الدولة، أو الالتزام بإجماع العلماء.
بمعنى، أن الشاب العربي المسلم لا يدرك الواقع الذي يعيش فيه، لا يملك رؤية واضحة بشأنه، يفقد الحماس للدعوة، يخلو من همّ على الأمة.
وتلقائيا، سيكون قد فقد الإحساس بنفسه سياسيا، وهو نقيض الوعي السياسي، الذي يعمل عليه المتفقون على تفتيت المنطقة، بضرب فكرها، ورشدها، واتزانها، وتاريخها.
وهذا مدعاة ليكون استعجال الوعي السياسي مقدما على استعجال الأمل بالنسبة للشباب .
العجلة في موضع الوعي بالسياسة صفة حميدة ومطلوبة، خصوصا مع تسارع الاشتباك الحاصل بين ما هو حق وباطل
والعجلة هنا ليست بمفهومها السلبي التي تقودنا مباشرة إلى الخطأ أو الندامة كتبعات للتسرّع، إنما هي في موضع الوعي بالسياسة صفة حميدة ومطلوبة، خصوصا مع تسارع الاشتباك الحاصل بين ما هو حق وباطل؛ باعتبار أن الوعي السياسي هنا طريق يمكن أن نسلكه للتفريق بينهما.
إنها محاولة لاستدراك الزمن الضائع في الجاهلية السياسية، التي حسّنت لنا صورة الظالم، وألبست الفساد ثوب الطُهر، وأعمت بصائرنا عن رؤية الحقوق، ونزعت منا الجرأة عن الجهر بها، وعزلتنا في زنازين الصمت.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، إن الفكر السياسي عند جمهرة المتدينين يتسم بالقصور البالغ، إنهم يرون الفساد ولا يعرفون سببه، ويقرؤون التاريخ ولا يكشفون عبره، ويقال لهم: كان لنا ماضٍ عزيز فلا يعرفون سر هذه العزة، وانهزمنا في عصر كذا، فلا يدركون سبب هذه الكبوة.
إنه بكل وضوح وقت التنظير بالسياسة ومكائدها، والانتقال من صوامع الدعوة إلى ميادين العمل. الانتقال إلى كتب الأمير لميكافيللي، والمبادئ لنيوتن، وكفاحي لهتلر، وفن الحرب لصن تسو، وغيرهم من الذين أحدثوا ثورة في ميدان السياسة والحرب، واتفقوا على أن تغييرا واحدا يفتح المجال لتغييرات أخرى، وأن القيادة الذكية هي التي تأخذ بعين الاعتبار المواهب الفردية.
وهذا لا يخرج عن مقاصد السياسة في الاسلام، باعتبارها عملية متعددة الجوانب تهدف إلى الحفاظ على وجود الأمة وكيانها، "فالمسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة، يحكمهم سياسيون لا يهتمون بالإسلام" ، كما قال السياسي التركي نجم الدين أربكان.
ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى تغيير جوهري "يأتي بنيان الفتنة من القواعد"، برأي الشيخ العلامة عبد السلام ياسين، الذي قال إن علينا ألا نكون على مستوى العصر الذي تتحكم فيه الجاهلية وقيمها، بل على مستوى مستقبل نقترحه نحن على التاريخ.
مع أهمية الربط بين الوعي باعتباره معرفة، وفي الوقت نفسه عملا يؤدي بصاحبه إلى الفاعلية والإيجابية والمبادرة إلى العمل: {كنتم خير أمَّةٍ أُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
نحتاج إلى الحكمة التي تعلمنا اللغة السياسية السليمة والتي تمكننا من مخاطبة الناس حولنا، وتجنبنا الانشغال بغير العدو الحقيقي، والسقوط في مصيدة الاختراق الفكري
من أجل ذلك قال العارفون: بورك من جمع بين همة الشباب وحكمة الشيوخ. الحكمة التي تعلمنا اللغة السياسية السليمة التي تمكننا من مخاطبة الناس حولنا، وتجنبنا الانشغال بغير العدو الحقيقي، والسقوط في مصيدة الاختراق الفكري.
إن ما يترتب على غياب الوعي كارثي في وضعنا اليوم وسيكون أكثر كارثية إذا ما استمر في المنظور القريب، الأمر الذي يجعل من الأهمية بمكان استعجال التوعية السياسية، وحثّ الشباب عليها، وأن يكون إقبالهم عليها من إرادة ذاتية على تحصيل الفهم الصحيح، من مبدأ تقليل الخسائر، وعدم ضياع الفرص.
باعتقادي أن أقصر طريق لتحصيل هذا الوعي، الانخراط في الأحزاب والفعاليات والأُطر السياسية الناشطة، وهي في المقابل مهمة هذه المؤسسات باستقطاب الشباب، وإنزالهم مواضع الاختبار، وإشراكهم في القرار، ومنحهم بالحد الأدنى القدرة على التعبير عن آرائهم، وأن تستثمر طاقاتهم وحيويتهم في كل طائل، وأن نعزز فكرة أن مصير الأمّة يتوقف فعلا عليهم.
وكل ذلك بتحصيل الوعي السياسي واستعجاله والانتفاع منه، وليس أجمل في هذا المقام من استحضار كلمات الكاتب المصري يوسف إدريس الذي اعتبر أن الثقافة هي المعرفة الممزوجة بالكرامة، فلو كانت تعنى المعرفة فقط لما اهتاجت السلطة، فماذا يهمها من سابلة الثقافة ورعاعها، إنما الذي يصنع الأزمة الدائمة هي الثقافة ذات الكرامة، لها إشعاعها الخاص، تلمحه في بريق العيون، ووضاءة الجبهة، وجلال العقل، ونصاعة الموقف، وهو ما نقصده ونحتاجه.