الكثير يناقش أعراض ومضاعفات المرض الذي حل بالحركة الإسلامية، والقليل منهم من يحدد المشكلة والسبب، وأقل من القليل من يدرس هذه المشكلة ولا يكتفي بالوقوف على حاضرها بل يقف على أصولها و يتتبع تطوراتها في التاريخ.
من المتفق عليه أن التباين الفكري والثقافي والنفسي والاجتماعي بين أبناء الحركة الإسلامية حاضر وبشكل واضح، والتجربة الطويلة تقول أنه من الصعوبة بمكان أن تصهر هذا التباين في بوتقة تربوية تضمن سلامة هذه المكونات وصحة توجهاتها؛ وذلك لاعتبارات كثيرة لعل من أبرزها: أن الحركة الإسلامية في جوهرها تحمل أهدافاً سياسية لا أهدافاً تربويةً مما يستدعي طغيان الجانب السياسي على الجانب التربوي لدى الأفراد.
وهنا تظهر مشكله تكلم عنها د. ماجد عرسان الكيلاني في كتابه النفيس (هكذا ظهر جيل صلاح الدين) وهي مشكلة التنظيم قبل التنظير حيث يقول الدكتور رحمه الله أن المجتمع فيه:
1- مؤسسات تربويه (الأسرة، المساجد، المدراس والجامعات).
2- مؤسسات التخطيط والتنفيذ (الأحزاب والجماعات).
ويقول أن توجه الحركات الإسلامية إلى إنشاء الجماعات والأحزاب قبل التأكد من سلامة مخرجات المؤسسات التربوية -والتي هي الرافد لهذه الأحزاب- أدى إلى أن (ضمت هذه الأحزاب مزيجاً متنافراً يحمل في محتويات أنفسهم المقولات الإسلامية التقليدية، ومبادئ الديمقراطية الوافدة، وقيم العصبيات القبلية والطائفية والاقليمية والقومية).
لذا لا تستغرب إن وجدت في أبناء الجماعة الواحدة تناقض غير مقبول في الأفكار، لدرجة أن أحدهم يدعو لموالاة النظام مثلاً وأخر يكفره! وهناك من هو ملتزم دينياً لدرجة عالية، ومن هو متساهل لأبعد الحدود! وعلى الجانب الآخر هناك كفاءات عالية وعقول مميزة، ولكن للأسف لا يوجد أساس -لدى الكثيرين- يعتبر كحد أدنى للأفكار المتفق عليها أو قاعدة للحوار ينطلق منها الجميع.
من المفارقات أن الذي لا يتقن العمل السياسي يأتي ويصوت ليختار القيادة السياسية، وقد يأتي من القيادة السياسية من يرسم توجهات العمل التربوي
ومن تبعات هذا التباين أن التنظيم فيه –من الخليط غير المتجانس- من يميل للعمل السياسي ومن يميل للعمل الدعوي، ولكن من المفارقات أن الذي لا يتقن العمل السياسي يأتي ويصوت ليختار القيادة السياسية، وقد يأتي من القيادة السياسية من يرسم توجهات العمل التربوي. وهذا الخلط الحاصل يذيب التخصصية عند الطرفين ويفرز قيادات لا أبدعت في هذا ولا ذاك.
ثم إن هذا التوجه للعمل السياسي ورفع سقف المطالبات السياسية –بطرق غير مدروسة في بعضها- استفز الأنظمة والحكومات، وحرك فيها الخوف على مصالحها. مما دعاها لمواجهة الحركات الإسلامية بالطرق المباشرة وغير المباشرة، في ظل وجود الضعف التربوي لدى أفراد التنظيمات ولدى المجتمع، مما أدى إلى نتائج عديدة منها:
1- أن حركة التنظيم نحو أهدافه صارت بطيئة جداً في زمان تتشابك فيه الظروف والمصالح وتتعقد وتتسارع الأحداث فيه باستمرار.
2- فقد التنظيم لكثير من المناصرين؛ لخوفهم الاقتراب منه وما لذلك من تبعات أمنية.
3- صار التنظيم في موقع استقبال الهجمات، مما دفعه لتشكيل جدر لحماية نفسه وللحفاظ على ما يسمى تماسك التنظيم فقام بنشر المفاهيم الحزبيه من (انتماء وطاعة وتنفيذ وموالاة واقرأ كذا وابتعد عن كذا)، و اعتماد مبدأ السرية في العمل.
4- غابت لغة الحوار وقبول الاختلاف داخل التنظيم في ظل هذه الأجواء الحزبية.
5- حدث خلط بين التنظيم والدين، لدرجة أن الدين صار يستخدم لتثبيت بعض مفاهيم التنظيم وترسيخها بدل أن يكون التنظيم وسيلة لرفع لواء الدين.
وفي الوقت نفسه فإن الطبيعة الحزبية التي تشكلت مع هذه الظروف كان لها تبعات على أبناء الحركة الإسلامية، فطبيعة هذه التربية الحزبية تفسر الحوار على أنه تلكؤ وضعف همة، وتفسر الاختلاف مع رأي التنظيم على أنه جريمة قد تصل إلى حد التخوين والفصل، وكأن الأفراد في ثكنة عسكرية لا في حركة دعوية سياسية.
ومع غياب الحوار العملي ورفض سنة الاختلاف برزت مجموعة من الظواهر التي كان لها أسوأ الأثر على مسيرة العمل الإسلامي فكان أن:
صارت الدعوة تنشغل بمشاكلها الداخلية من كولسات وجيوب وانشقاقات ونزاعات بدلاً من أن يكون مجهودها متجهاً نحو المجتمع
1- تجمع من يتقاسمون فكرة معينة يختلفون فيها مع رأي التنظيم مع بعضهم، ليشكلوا ما يسمى بالجيوب التنظيمية وما يلحق بها من كولسات.
2- دفعت آخرين من أصحاب الكفاءة في مختلف المجالات إلى خروج من هذه الأجواء التي لا تناسبهم بل وتعيق طاقتهم، وهناك الكثير الكثير من الأمثلة على ذلك..
3- كما و دفعت آخرين إلى الانشقاق والخروج بتنظيم جديد لتزيد شرذمة العاملين لهذا الدين في الوقت الذي يتحد فيه الخصوم.
4- ساد نوع من الخمول والركود بين أفراد التنظيم.
وصار التنظيم ينشغل بمشاكله الداخلية من كولسات وجيوب وانشقاقات ونزاعات بدلاً من أن يكون مجهوده متجهاً نحو المجتمع.
كما كان لهذه التربية الحزبية آثار أخرى على أفراد التنظيم يذكر منها د. عبدالله النفيسي:
من تبعات التربية الحزبية داخل الدعوة، تشكل العقلية المباشرة والتي اعتادت التنفيذ بدلاً من الحوار والتفكير فهي لا تفهم إلا المباشر
1- تشكل العقلية المباشرة والتي اعتادت التنفيذ بدلاً من الحوار والتفكير فهي لا تفهم إلا المباشر.
2- تحول الأفراد إلى حالة من الانتظار للأوامر وفقد القدرة على المبادرة.
3- ضمور المبدعين.
4- ضعف القدرة على تفسير الظواهر وتتبع أسبابها بل الوقوف عليها بشكل سطحي.
كما كان للسرية التي فرضتها الظروف مشاكل كبيرة يذكر منها د. عبدالله النفيسي :
1- الشعور بالعزلة عن المجتمع.
2- عدم المشاركه في صياغة قرار التنظيم من قبل أفراده بشكل عادل وسليم.
3- سوء انتقاء العناصر للمواقع فقد يقدم الثقة على المتقن.
ختاماً.. حاولنا في هذه العجالة أن نقف على أبرز المشاكل التي تطفوا على سطح الحركات الإسلامية، محاولين البحث عن أسبابها العميقة؛ بهدف الوصول إلى تصور واضح للمشكلة يساعد في الوصول إلى حل يخرج الحركة الإسلامية من أزمتها ويسهم في إعادتها إلى طريق النهضة، وهو ما سأتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله.