لقد رَفَع الله شأن العلماء، وأعْلى قَدْرَهم، فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] والعلماء هم ورثة الأنبياء كما ورد في الحديث الصحيح، ووراثة النبوة تعني استمرار الوظيفة النبوية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك بقيام العلماء بالدور نفسه الذي أداه طيلة حياته الجهادية، وهو دور حمل الرسالة ثم تبليغها.
حول هذا الموضوع والدور الملقى على العلماء فيما حلَّ بالمسلمين من فُرْقةٍ وخلاف كان لـ"بصائر" هذا الحوار مع الدكتور يونس الأسطل عضو رابطة علماء فلسطين وعضو المجلس التشريعي بغزة:
بصائر: لقد رفع الله تبارك وتعالى شأن العلماء والدعاة، وأعلى قدرهم؛ كيف ذلك؟
د. يونس الأسطل: من المعلوم أننا ما كنا جديرين بالخلافة في الأرض، متفوقين بذلك على الملائكة؛ إلا بأهلية العلم، ولذلك فإن القادة ينبغي أن يكون كلٌّ منهم حفيظاً عليماً، قد أُوتي عِلْماً، فضَّله الله به على كثيرٍ من عباده المؤمنين.
وما أكثرَ النصوص التي ترفع الذين أُوتوا العلم والإيمان درجاتٍ أو مكاناً علياً!!، فقد أشرك ربُّنا جلَّ وعلا أُولي العلم مع نفسه، ومع ملائكته، في الشهادة له بالوحدانية في الألوهية، والقيام بالقسط، وجعلهم أكثر الناس خشيةً له، كما أثنى على الراسخين في العلم الذين يُفَوِّضون علم المتشابه من الكتاب لله، وأنهم يؤمنون بما أُنزل إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلَّم، وما أُنزل من قبله، وجعل القرآنَ آياتٍ بينات في صدور الذين أوتوا العلم، ورفع به درجاتٍ مَنْ يشاء، وأخبر أنه فوق كلِّ ذي علم عليم، وأنكم ما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً.
بصائر: لماذا تراجع دور العلماء والدعاة بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته، وهل يستمر ذلك مستقبلاً؟
أفراد العمل الإسلامي يختارون غالباً من يجدونه ناشطاً في الدعوة والتربية، فإذا كان العلماء والدعاة كذلك وقع عليهم الاختيار، وإلَّا تخطتهم القواعد
د. يونس الأسطل: أظنُّ أن تراجع دور العلماء والدعاة نسبيٌّ، وليس على إطلاقه؛ فإن قياداتِ العمل الإسلامي لا تصل إلى الصدارة بالاحتيال والتزوير؛ إنما تجري انتخابات كلَّ بضع سنين، تختار فيها قواعد العمل الإسلامي قياداتها، وهم يختارون غالباً من يجدونه ناشطاً في الدعوة والتربية، فإذا كان العلماء والدعاة كذلك وقع عليهم الاختيار، وإلَّا تخطتهم القواعد إلى غيرهم من ذوي الفكر والنشاط.
إذاً فالسبب في ذلك التراجع هم العلماء والدعاة أنفسُهم، ولعل السبب في ذلك أن الحركة الإسلامية قد ركزَّت على النُّخب في طلبة الجامعات، وهؤلاء عادة ما ينخرطون في التخصصات العلمية من الطب والهندسة، بينما يكون نصيب الدراسات الشرعية من ذوي التحصيل المتدني؛ إلا من رحم ربُّك، وهذا ينعكس على أهلية الإدارة والقيادة.
ويفترض أن يُصْطَفَى لدراسة العلوم الشرعية أكثر الطلبة أهلية من الذكاء والموهبة، وقد اصطفى ربنا تبارك وتعالى للنبوة خيرته من خلقه؛ فإذا حصل هذا تَقَدَّمَ العلماء والدعاة تلقائياً قيادة المجتمع، وقيادة العمل الإسلامي على وجه الخصوص.
وأعتقد أن المستقبل القريب سوف يشهد هذه النقلة النوعية؛ بحكم التوسع في مراكز تحفيظ القرآن، والمدارس الشرعية، والمعاهد الدينية، وبخاصة إذا أمكن جعل مرتبات التخصص الشرعي مثل رواتب الأطباء والمهندسين، أو كانت أعلى منها، كما فعلت تركيا مع المدرسين عموماً، والشرعيين خصوصاً.
بصائر: ما هو دور العالم المسلم وهيئات العلماء في الدول الإسلامية فيما حلَّ بالمسلمين من فُرْقةٍ وخلاف؟
د. يونس الأسطل: لعل الاعتداد بالاجتهاد، والتعصب للرأي، ولَمْزَ الاجتهادات المخالفة في مقدمة أسباب الفرقة، فالسلفية العلمية مثلاً تزعم أنها الفرقة الناجية؛ لاهتمامهم بثقافة التوحيد، ومظاهر السنة، والاعتماد على ظواهر النصوص في الإفتاء، والتركيز على الفقه بأكثرَ مما يعتنون بالفكر، أو يتطلعون إلى الشراكة السياسية في الحكم، ويُسَوِّقون ضرورة القبول بالأمر الواقع، والتعايش مع الحكومات، دون إزعاجها بكشف عيوبها، أو الدعوة إلى المشاركة الشعبية في الحكم عبر الانتخابات المختلفة من البلديات، إلى البرلمانات، ثم الرئاسة، والمؤسسات القيادية في السلطة التنفيذية.
وفي المقابل؛ فإن ما يسمى بالسلفية الجهادية قد بلغ ببعضهم الغلو إلى درجة تكفير الحكام والمجتمعات، والاعتقاد بأن قتال هؤلاء مقدَّمٌ على مجابهة الغزو الخارجي، والاحتلال الأجنبي.
ولا شكَّ أن كُلَّاً من الإفراط والتفريط ذميم، وأن خير الأمور أوسطها، والواجب يقتضي أن يسعى العلماء والدعاة في نشر الفكر الوسطي الذي يقبل بالتعايش السلمي مع الآخرين، والتدافع من خلال البرامج الخدمية للناس، والرؤى السياسية في حلِّ الأزمات، مع ضرورة امتلاك القوة لمجابهة العدوان الخارجي، أو العبث الداخلي للسفلة واللصوص والفُجَّار.
بصائر: لماذا لا يحاول بعض العلماء من شَتَّى أقطار العالم الإسلامي إعادة وحدة الصف كهيئة مستقلة عن كل الخلافات الإسلامية، أو السياسات المغرضة؟
أيَّ تحركٍ لأي تجمع للعلماء والدعاة ما لم يكن مُحْتَضَناً من بعض الحكومات الشرعية المخلصة لشعبها لا يُكتب له النجاح غالباً
د. يونس الأسطل: إن أيَّ تحركٍ لأي تجمع للعلماء والدعاة ما لم يكن مُحْتَضَناً من بعض الحكومات الشرعية المخلصة لشعبها لا يُكتب له النجاح غالباً؛ فإنه في حاجة إلى قاعدة تجمُّع وانطلاق، وإلى احتضانٍ ماليٍّ وسياسيٍّ؛ حتى لا يكون مجرد هَبَّةٍ يجري تطويقها، أو تفريغها؛ باختراقها من بعض المنافقين المرتبطين بالأنظمة، أو بالأعداء، كما حصل في (مؤتمر غروزني) بالشيشان مؤخراً، وجَمَعَ المتردية والنطيحة من المحسوبين على العلم، من الدراويش، ومشايخ السيسي حملة العمائم الأزهرية، ومَنْ على شاكلتهم – هدانا الله وإياهم لما يحب ويرضى-.
بصائر: هل على العلماء من مسؤولية لأنهم انزووا، فاضطر الشباب أن يأخذوا زمام المبادرة؟
د.يونس الأسطل: إن الظروف مهيأة للشباب اليوم للتدرج في القيادة في كثير من المجتمعات الإسلامية، بالانخراط في الأنشطة الجامعية لمجالس الطلاب، أو حتى لأنشطة المدارس الثانوية والإعدادية، ثم بالمشاركة في النقابات المهنية، وهي التي تُفْرِزُ القياداتِ السياسيةَ في البرلمانات، والإدارات العديدة في الوزارات، والهيئات المختلفة.
وعلى العلماء أَلَّا يكونوا بدْعاً من هذا الواقع، فلو كانت الروابط والهيئات العلمية، وتجمعات المشايخ والدعاة، تُفْرِزُ بالانتخابات الحرة والنزيهة قياداتِ العلماء في المواقع المختلفة؛ إذاً لأحسَّ العلماء أن لهم كياناتٍ تحتضنهم، وأن قياداتِهم يتمتعون بشرعية انتخابية، يمكن معها تجييش العلماء في الضغط على الحكومات للتغيير المنشود، ولو حصل هذا لكان الشباب في مقدمة الأنصار لمواقف العلماء، ولكانوا وقودَ برامج الضغط السياسي تحت إمرة العلماء.
الواجب يقتضي أن تكون المؤسسات العلمية، والمشيخات المختلفة، منتخبةً من قواعدها؛ حتى تكون حرةً في مواقفها وبرامجها؛ وحتى تكسب ثقة الجماهير
إن الإشكال الحقيقي هو أن المتصدِّرين في تجمعات العلماء يَصِلُون بالولاء السياسي والفكري، لا بالأهلية أو الإرادة الشعبية للجمعيات العمومية لتلك التجمعات، فلا تكون عندهم إرادة التغيير؛ فإنه يفقدهم الوجاهة والمصالح المادية، ويحصل ازدراء الشباب لهم، فيأخذون على عاتقهم مسؤولية التغيير، ويتخطَّوْن الرموز الرسميين؛ لفقد الثقة في وَرَعِهم، أو علمهم كذلك.
إن الواجب يقتضي اليوم أن تكون المؤسسات العلمية، والمشيخات المختلفة، منتخبةً من قواعدها؛ حتى تكون حرةً في مواقفها وبرامجها؛ وحتى تكسب ثقة الشباب والجماهير، فيتحول العلماء والدعاة إلى رموز شعبية كبيرة يرهبها الحكام، وينزلون عند إرادتها في التغيير والإصلاح؛ حتى لا يقودوا عصياناً مدنياً، أو ثورة شعبية سلمية، تؤدي إلى الإطاحة بتلك الحكومات، أو تعجيزها عن فرض إرادتها على الجماهير، وقد يتحول هذا في المستقبل إلى مقاومة مسلحة للتخلص من الحكام الطغاة أو الخونة.
بصائر: أين دور العلماء والفقهاء وهم قادة الناس وموجهوهم، وينتظر منهم المسلمون النصرة لإخوانهم؟، ولماذا انحصر دور العلماء في مجالات محدودة؟
د. يونس الأسطل: إن دور العلماء قد انحصر منذ القرون الأولى، حين تحولت الخلافة إلى مُلْكٍ عَضُوض، وصار الحكم وراثياً في بني أمية حيناً، وفي بني العباس حيناً آخر، واضطر العلماء إلى الانزواء؛ بعد أن الْتصقت تهمة (علماء السلاطين) بكل من يقترب من بلاط الحكام، وهو مضطر إلى مدحهم؛ إذا رغب في نيل الفُتات من دنياهم؛ بل إن العلماء الربانيين لم يسلموا من اضطهاد الحكام اعتقالاً وتعذيباً، ولا عجب أن تكون كثير من مؤلفاتهم قد كتبت في غياهب السجون؛ بل إن بعضهم قد قضى نَحْبَه، ولقي ربَّه محبوساً.
وإذا كان هذا في عصر الملك العضوض للخلافة الإسلامية؛ فكيف يكون الحال في حقبة الاستبداد والحكم الجبري، والأنظمة الوضعية الموالية لليهود والنصارى، أو للوثنية والإلحاد!!
الواجب على العالم أن يجاهد لإصلاح الواقع أو تغييره ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والمهم في هذا هو الشورى والعمل الجماعي، والاستفادة من كلِّ هامشٍ للحرية
ولكنَّ كلَّ ذلك لا يصلح عذراً عند الله؛ فإن الواجب على العالم أن يجاهد لإصلاح الواقع أو تغييره ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والمهم في هذا هو الشورى والعمل الجماعي، والاستفادة من كلِّ هامشٍ للحرية، مع تخصيص جيل الغلمان والأشبال بالاهتمام؛ لنكون كعود زرع أخرج شطأه، وفسائله، فآزرها بتحفيظ القرآن، والكثير من السنة، والمزيد من المتون، حتى تستغلظ، وتستويَ على سُوقِها، في ظرفٍ قصير، فَتُعْجِبُ الزُّرَّاعَ، ويغيظ الله بهم الكفار.
إن الشعوب العربية والإسلامية بعد أن فقدت الثقة في الحكام تتطلع إلى العلماء لإرشادها وقيادتها إلى مستقبلٍ يعيد الأمة سيرتَها الأولى خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، وخاصة الشعوب المضطهدة بالاحتلال الخارجي، أو الاختلال الداخلي، وهو أخطر بكثيرٍ من وطأة الغزو الأجنبي.
وإذا لم يُتَحْ للعلماء أن يكونوا في مواقع التأثير في رأس الهرم السياسي، ولو في البرلمان، ومجالس الشورى، انصرفت طاقتهم العلمية إلى بعض جوانب الحياة، كالتفريع في فقه العبادات، أو التفصيل في عقود المعاملات، وأمثال ذلك من الميادين التي تُفضي إلى انحسار دور العلماء في العَالَمِين.
بصائر: كيف يمكن تفعيل دور العلماء في المجتمع، وإحيائه في الناس؟
د. يونس الأسطل: إن السبيل لذلك هو أن يتبنى العلماء الفكر الوسطي، وأن يجنحوا إلى العمل الجماعي، وأن يستفيدوا من أيِّ هامشٍ للحرية في إحياء الشعوب، بدءاً من مراكز تحفيظ القرآن، مروراً بالمدارس الشرعية، والمعاهد الدينية، والجامعات الإسلامية، وليس انتهاءً بالميسور من وسائل الإعلام.
وإذا أُتيحت المزاحمة السياسية بالانتخابات في المستويات المختلفة؛ فَلْيشاركوا فيها معذرةً إلى ربكم، واكتساباً للخبرة في الإدارة والقيادة، ولابُدَّ من التدرج من الكتلة الطلابية في المدارس، إلى المجالس الطلابية في الجامعات، إلى النقابات المهنية في الخريجين، ثم المجالس النيابية، والمشاركة في الحكم.
لابد أن يقوم العلماء بالاعتناء بالأجيال الشابة، وتعبئتها بما يمنع المراهقة الفكرية، أو الانحراف الأخلاقي
ولابد من الاعتناء بالأجيال الشابة، وتعبئتها بما يمنع المراهقة الفكرية، أو الانحراف الأخلاقي، وبما ينزع الرَّوْعَ من قلوبهم إِلَّا من الله الواحد القهار ربِّ العرش العظيم ذي البطش الشديد.
وإن الصمود لأية ابتلاءاتٍ تحلُّ بالعلماء والدعاة، ولو أدَّى أن يلبث في السجن بضع سنين، أو أن ينال الشهادة، ويُعَلَّق على المشنقة؛ فإن حذاءه عند ذلك يكون أعلى من هامات الطغاة المتجبرين في الأرض، وإن الأفكار والبرامج والمناهج لا تكتب لها الحياة غالباً إلا حين يستشهد أصحابها في سبيلها.
وعلى العلماء أن يبحثوا عن الحاضنة الشعبية ابتداءً، ثم الغطاء السياسي الذي يدعمهم في منافحتهم عن دين الله، وسعيهم لإظهاره على الدين كلِّه، ولا أُغفل الحاجة إلى موازنة مالية لتمويل برامج الإنهاض الشعبي، واقتحام النفوس العطشى إلى رمق الحياة عبر برامج المودة للمؤلفة قلوبهم من ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، وكل أصناف المحتاجين.
ولعله من المفيد أن أشير إلى تجربة إحياء علوم الدين لعلماء القرنين السادس والسابع لمجابهة الغزو الصليبي في تلك الحقبة العصيبة، وقد رصدها الدكتور/ ماجد عرسان الكيلاني في كتابه الفريد في بابه، الموسوم بعنوان: (هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس).