باتت الأرزاق اليوم همَّ الإنسان الأول ومحرك حياته ومكان إقامته بل وحتى شكل بيته وأهله، حتى بات كثير منهم يبحث عن امرأة تعينه على دنياه لا على دينه، ويكمل راتبها راتبه ليتعايش وهذه الظروف المحيطة اللئيمة، حتى أصبح الرجل يعمل ويكد من طلوع الشمس إلى غروبها ويسافر ويرتحل إلى حيث رزقه؛ فصار الإنسان كالآلة التي صنعت لتعمل ولتعمل فقط، فإذا انتهت من عملها أو توقفت يكون قد وجب تغييرها وإلقاؤها والتخلي عنها والبدء بالبحث عن بديل لها، وللأسف فإن أرباب العمل يتعاملون هكذا مع الإنسان اليوم؛ فطالما أنت تنتج فأنت إذن مقدر ويتم الإنفاق عليك ! صحيح أن هذا الإنفاق لا يتناسب وحجم العمل المنجز وأنك مُجحَف الحق مظلوم؛ لكن البعد الأخطر على الإطلاق هو أنك عندما تعجز أو تتوقف فإنه سيتم إلقاؤك في حفرتك ليبدأ البحث عن بديل مناسب لك من اليوم التالي.
وإن الدعاة إلى الله اليوم كغيرهم من البشر يعيشون هذه الحياة التي باتت روتيناً قاتلاً؛ فمن طلوع الشمس إلى غروبها وهو يبحث عن لقمة عيشه وأهله، يبحث عن المال الذي سيعطيه مأوى وملبس، سيعطيه ما ينفق به على أولاده في دراستهم، وعلى ما يحتاج أهل بيته من شؤون حياتهم كالماء والنور والإنترنت وكذا الأثاث والسيارة، بل وحتى التواصل مع الناس في مناسباتهم الاجتماعية، فعندما يكوّن الإنسان أسرة يصبح همه أكبر وحرصه أكثر وتقصيره عن الواجب أعمّ وأغلب ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الولد مبخلة مجبنة" (رواه أحمد).
بدأ الدعاة ينحون إلى الدنيا شيئاً فشيئاً، وإذا سألت أحدهم عن تقصيره أو تغيبه عن لقائه الدعوي، بل وربما غاب أيضا عن صلاة الجماعة، بدأ يتلو عليك مهام العمل وضغوطه
وبدأ الدعاة ينحون إلى الدنيا شيئاً فشيئاً، وإذا سألت أحدهم عن تقصيره أو تغيبه عن لقائه الدعوي، بل وربما غاب أيضا عن صلاة الجماعة، بدأ يتلو عليك مهام العمل وضغوطه وصعوبته ويأمل فيما يأمل بأن الفرج سيكون قريباً وأنه سيأتي اليوم الذي سيتغير الحال فيه وأنه سيعود لنشاطه والعمل الدعوي من جديد؛ ولا يدري هذا المسكين أن أجل تقاعده يسابقه أجل موته فأيهما سبق فقد خرج ساعتئذ من ضغط العمل وروتينه بل وربما خرج من الحياة كلها، كمن ألقى به قطار الحياة جانباً سواء أكان لايزال حياً أم قد فارق الحياة.
وقلَّ من اتجه من الدعاة إلى التجارة والأعمال الحرة والتي تترك له هامشاً مناسباً من الحرية ليتحرك في دعوته والعمل مع الله؛ لكن الغلبة الغالبة كانت في أولئك الموظفين الذين صارت حياتهم إما بالنوم أو في العمل وقلّما يلتفتون إلى أي شأن آخر سواء أكان دنيوياً أم أخرويا.
والموظف واحد من اثنين على الأغلب؛ إما أنه موظف حكومي أو أنه في قطاع خاص، أما الموظف الحكومي فإنه يبقى متأهباً خائفاً في وظيفته خشية التضييق عليه إن ظهر نشاطه الدعوي وخشية أن توقفه الحكومة أو الأجهزة المختصة عن عمله؛ ولذلك يقول الإمام الشهيد حسن البنا في وصاياه المعروفة بواجبات الأخ المسلم: "أن تزاول عملا اقتصاديا مهما كنت غنيا، وأن تقدم العمل الحر مهما كان ضئيلا، وأن تزج بنفسك فيه مهما كانت مواهبك العملية"، وفي الفقرة التي تليها يقول: "ألا تحرص على الوظيفة الحكومية، و أن تعتبرها أضيق أبواب الرزق ولا ترفضها إذا أتيحت لك، ولا تتخل عنها إلا إذا تعارضت تعارضا تاما مع واجبات الدعوة".
وأما ثانيهما أي موظف القطاع الخاص فإنه مستنزف الوقت والجهد، صحيح أن دخله قد يَفْضُلُ دخلَ الموظف الحكومي؛ إلا أن جهده المبذول وساعات عمله أضعاف أضعاف ما يأخذه من مال من وظيفته هذه، ولعل الداعية هنا أيضاً يخشى من العمل الدعوي العلني خشية على وظيفته؛ خاصة إذا كانت الأجهزة الأمنية لها كلمتها في بلده.
الموظف الذي سافر باحثاً عن لقمة عيشه متغرباً عن أهله ووطنه وأصحابه فلن يستطيع الانخراط في الأعمال الدعوية إلا في أقل الواجب، فهو يخشى من ترحيله إلى بلده
أما الموظف الذي يعتبر وضعه أسوأ مما سبق، فهو الذي سافر مضطراً باحثاً عن لقمة عيشه متغرباً عن أهله بعيداً عن وطنه وأصحابه، صحيح أنه هناك فوائد جمة في السفر، وقد يحسن دخله ويرفع من سوية معيشته، إلا أنه سيبقى غريباً ضعيفاً خارج وطنه، سينفق كل ساعات حياته هناك بين العمل والألم والحسرة، ولن يستطيع الانخراط في الأعمال الدعوية إلا في أقل الواجب، فهو يخشى من ترحيله إلى بلده كما حصل في عدة من البلدان العربية التي كانت تنهي إقامة مغترب عندها فقط لانتمائه الفكري، بل وربما اعتقل في بعض هذه الدول وعذب، ومنهم من قُتل تحت تعذيب هذه الأجهزة التي بات وجودها يخدم الأعداء لا الأوطان.
ومن هنا كان على رجال الأعمال وكبار التجار المنخرطين في الدعوة أن يوفروا بيئة وظيفية مناسبة لهؤلاء الدعاة يحصلون فيها على الرزق ويأمنون على أنفسهم من فتنة التضييق عليهم ويبقون على كوادرهم داخل أوطانهم، فليس كل الناس يحسن التجارة والأعمال الحرة أو حتى إدارة المشاريع الصغيرة، فكل ميسر لما خلق له.
من أوجب الواجبات اليوم على الحركة الإسلامية توجيه أغنيائها وكذلك استثمار أموالها إن استطاعت في المشاريع التي تجمع أبناءها تحت لوائها فلا يخشى أحدهم على رزقه
إن من أوجب الواجبات اليوم على الحركة الإسلامية توجيه أغنيائها وكذلك استثمار أموالها إن استطاعت في مثل هذه المشاريع التي تجمع أبناءها تحت لوائها فلا يخشى أحدهم على رزقه فينطلق حراً طليقاً في الحق والدعوة إلى الله وهو خير من وعد الداعية بالرزق إن هو طُرد من وظيفته، فاليد العليا خير من السفلى؛ فإنشاء المدارس والمستشفيات والجامعات والمكاتب الهندسية والشركات بمختلف نشاطاتها باب ذو نفع كبير على الجميع، فهو استثمار أولاً؛ وثانيا تجمع فيه كوادرك من أطباء ومهندسين ومعلمين ومحاسبين وحرفيين وأساتذة جامعات، وإن هناك الكثير الكثير من هذه المؤسسات التي تؤوي مئات الموظفين الدعاة أثبتت قوتها ونجاحها إذا كانت هناك إدارة ناجحة وفعالة ومستقلة عن العمل التنظيمي، وتستطيع هذه المؤسسات أن تدفع أجوراً مجزية عدا عن توفير بيئة نظيفة من الملتزمين في العمل بعيدة عن الاختلاط المحرم أو رفقة السوء.
وأخيراً بتنا نبحث عن العاملين في الدعوة ولو بأجر، في المقابل قد لا نكون بحاجة إلى ذلك إذا ما استثمرنا أموالنا وكوادرنا الكفؤة في العمل الدنيوي مما سيدفع بهم إلى العمل الدعوي.