عود على سياق قديم حول القراءة، تناولنا فيه العديد من القضايا التأصيلية فيما يتعلق بالقراءة البنَّاءة، وكيف يمكن للإنسان أن يستفيد مما يقرأ في توسيع مداركه وأفقه المفاهيمي، وبالتالي، تطوير عقليته النقدية في التعامل مع الظواهر من حوله، وفهمها، والذي من بين أهم نتائجه تحسين قدرته على التواصل مع هذه الظواهر، والاشتباك معها، سواء بالتعديل أو التطوير، بحسب طبيعتها، سلبية أم إيجابية.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن أهم مُدرَك ينبغي أن يكون لدى الإنسان عن القراءة، أنها ليست مجرد وسيط معرفي، أو أداة لتحصيل المعلومات والمعارف المختلفة ؛ حيث تتجاوز ذلك إلى أن نقول عنها باطمئنان كبير، أنها أحد أهم قوانين العمارة الإنسانية والحضارة البشرية.
فالتدوين، أيًّا كانت صورته – رموز أو أحرف – ووسائطه – ألواح حجارة أو أوراق بردي وصولاً إلى الورق المطبوع ثم الوسائد الإلكترونية في وقتنا الراهن – كان هو العنصر الفاصل بين مرحلة ومرحلة مغايرة تمامًا من تاريخ الإنسان.
التدوين والقراءة كسُنَن في السياق التاريخي الإنساني:
كان اختراع الإنسان للتدوين هو النقطة الأولى لتسجيل تاريخ البشرية بشكل يقيني، وتحقيق التراكُم المعرفي في مختلف المجالات، والذي هو صُلب مفهوم الحضارة
كان اختراع الإنسان للتدوين هو النقطة الأولى لتسجيل تاريخ البشرية بشكل يقيني، وتحقيق التراكُم المعرفي في مختلف المجالات، والذي هو صُلب مفهوم الحضارة، ونقل الماضي إلى الحاضر، وصيانته حتى تسليمه إلى المستقبل، ولولا ذلك، ما حقق الإنسان ما أنعم الله تعالى عليه به الآن، من تقدم ورقي في مختلف المجالات الحضارية، في الفنون والعلوم والآداب المختلفة.
ولعل أبلغ دليل على ذلك، هو أن الديانات السماوية التي أنزل الله تعالى شرائعها إلى عباده؛ كلها نقلت تعاليمه إليهم عبر التدوين، وكانت الوسيلة الوحيدة لمعرفة شريعة الله تعالى، هي قراءة كتبه وشرائعه المدونة فيها.
والقرآن الكريم، معجزة الله تعالى الباقية فينا إلى أن يشاء أن يرفعه من صدور المؤمنين، إنما ينتقل بحفظه وتلاوته – أي قراءته – وقراءته هذه في حد ذاتها عبادة كما هو ثابت في أكثر من نصٍّ قطعي الدلالة والثبوت في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة.
ومن المعروف أن الله تعالى لم ينزِّل رسالاته السماوية إلا بعد أن اكتملت مفردات الحضارة الإنسانية الأساسية ، ويكون ما بعدها هو تطوير فقط لهذه المفردات، بحيث عندما تنزل الرسالة الخاتمة؛ فإنها تشتمل على تعاليم شاملة لكل أركان الحياة، لتنظيمها، وتحديد حكم الله تعالى فيها.
فلم يكن يمكن عقليًّا – على سبيل المثال – تصوُّر نزول شريعة الإسلام قبل اختراع النقود، وإلا كيف سوف يحدد الإسلام أحكام الزكاة والربا والمعاملات والتجارة، وغير ذلك مما اتصل بالمال، من دون أن يكون هناك تعاملات نقدية بين الناس.
بالمثل؛ لم يكن من المتصوَّر أن تتنزَّل شرائع الله تعالى، قبل اختراع الإنسان للتدوين، وهو وإن كان له دلالة أكثر عمومية من ذلك؛ فإنها تتعلق بأن الله تعالى هو – حقًّا وصدقًا – مالك الملك، وهو المُتصرِّف الذي يسيِّر أمور الكون بمقاديره، وبقدرٍ كما يشاء، من خلال هداية الإنسان عبر تاريخ البشرية الطويل، إلى مفردات الحضارة المختلفة، بالتدرُّج اللازم الذي شاءته الإرادة الإلهية، لتحقيق سُنَن الله عز وجل في عمارة الأرض، وتحقيق الهدف الأسمى من الخلق، وهو توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة.
وفي الجانب العملي العلمي، فإن القراءة – كما تُعرَّف في المعاجم والقواميس – عملية معرفية بالأساس، أي أنها ليست عبارة عن مجرد ربط رموز ببعضها البعض، وهي الحروف، لتكوِّن كلٍّ أكبر من مجموع أجزائه، وهي الكلمات، فالعبارات؛ فالقراءة عملية أكبر من ذلك؛ حيث هي وسيلة فهم.
القراءة تتضمن فهم النص المكتوب، وتفكيكه، وتفسيره، والانطلاق منه للوصول إلى معانٍ وأفكارٍ جديدة، أو ما يُعرف بالابتكار
وبالتالي؛ فهي تتضمن فهم النص المكتوب، وتفكيكه، وتفسيره، والانطلاق منه للوصول إلى معانٍ وأفكارٍ جديدة، أو ما يُعرف بالابتكار.
وهي كذلك وسيلة تواصل بين البشر من خلال اللغة المكتوبة، التي هي في ذات أهمية اللغة المنطوقة.
إذًا، فالقراءة أمرٌ أكبر وأعقد من مجرد أن نتحدث فيها عن الممارسة المباشرة التي نعرف بها فِعْل "القراءة"، والذي يعني في معناه البسيط المرور الصامت أو المتكلِّم، بالعينَيْن أو بأية حاسة بشرية أخرى "مثل الأيدي في حالة المكفوفين"، على كلمات مكتوبة في أي وسيط، ورقي أو إلكتروني.
كما أنها تعني كذلك – في الجانب السلوكي المادي – قدرة الإنسان على الصبر على النص، والجلوس لفترات طويلة، والتعوُّد على الكتاب أو الوسيط الذي يتضمن الكلمات التي تتم قراءتها، وبالتالي؛ فإن القراءة مهارة بحاجة إلى غرس مبكر منذ مرحلة الطفولة الأولى ؛ لأنه من الصعب تعليم الإنسان مختلف المهارات التي تتطلبها القراءة بهذا المعنى، في مراحل سِنِّية متقدمة.
القراءة كعملية حية ودورها في التطور الحضاري:
ومن بين أبرز سمات القراءة في الإطار السابق، هي أنها عملية حية ومتطورة، من خلال إرسال واستقبال المعلومات والمعارف بين الناس، وبالتالي؛ فهي الأداة الرئيسية للتراكم الثقافي والحضاري كما تقدم.
وبإنزال ذلك على الواقع؛ سوف نكتشف أننا أمام أحد أهم أسباب التراجع الحضاري للعالم الإسلامي، مقارنة مع الغرب في الوقت الراهن.
من بين أهم أسباب تقدم الغرب؛ حرية المعرفة، ومنها حرية إتاحة المعلومات، بحيث تحولت المجتمعات إلى مجتمعات مولِّدة للمعرفة بمتوالية هندسية
فمن بين أهم أسباب تقدم الغرب؛ حرية المعرفة، ومنها حرية إتاحة المعلومات، بحيث تحولت المجتمعات إلى مجتمعات مولِّدة للمعرفة بمتوالية هندسية، وتحولت كل مؤسساتها العلمية والتعليمية، بل وعلى مستوى المجموعات البشرية الصغيرة، إلى مصدر لتوليد المعرفة بناء على ما هو متاح منها.
وهنا، في هذا الموضع، نذكر أن تجارب مثل "مايكروسوفت" و"أبل" و"ياهو" و"جوجل"، وغيرها من المشروعات التي بدأت صغيرة، وصارت قيمتها الآن بعشرات المليارات؛ كلها بدأت بمبادرات فردية لأصحابها من الشباب صغار السن، ممن استفادوا من حرية المعرفة وقوانين حرية المعلومات، فاستطاعوا البناء على ما هو متاحٌ لهم منها.
ولعل الأهمية القصوى لهذه القضية، تتضح في أنها بالفعل هي الفارق الذي رسم خريطة القوى الحالية في العالم، وجعل الغرب يتحكم في مصائر باقي الشعوب، ومن بينها الشعوب الإسلامية، وينتهك خصوصياتها، ويستولي على ثرواتها.
إذًا، فنحن أمام قضية كبرى ينبغي أن تشغل أكبر حيز من الاهتمام من جانب صناع القرار وقادة الرأي في عالمنا الإسلامي، لتغيير النظرة إلى القراءة، والعمل على وضع قضية حرية المعلومات وإتاحة المعرفة، ضمن منظومة التشريع والقوانين المعمول بها في هذا المجال.
وحتى يحدث ذلك؛ فإننا بحاجة إلى ثورة حقيقية في صفوف الأفراد، تعمل على تجاوز العقبات القائمة، والانطلاق من روح المبادرة الفردية؛ لأن الإنسان المسلم مطالب بالقراءة والمعرفة أكثر من أي شيء آخر، والقرآن الكريم خير دليل على ذلك القول!