تلعب القيم دوراً مهماً في حياة جميع الأفراد في المجتمع بمختلف مراحلهم العمرية، إذ أنَّها تعمل على إصلاح الفرد نفسياً وخلقياً، وتسهّل عملية ضبط دوافعه وشهواته ومطامعه، وتوجّهه نحو الخير والإحسان والواجب.
ولا شكَّ أنَّ هناك ثغراتٍ في النظام القيمي المعبِّر عن الهوية العربية الإسلامية، فيما يكتب ويقدّم للأطفال باعتبارهم الشريحة الأهم واللبنة الأساس في المجتمع، ممّا يجعل الكتّاب والمتخصّصين في أدب الطفل أمام تحدّ كبير في سدّ هذه الثغرات، لأنَّ أدب الأطفال الجيّد لا يقتصر على المضمون من أفكار وقيم، بل هو كذلك يتمثل بالشكل من لغة وأسلوب وخيال وعناصر فنية مختلفة، والمضمون والشكل دائماً متلاحمان يصعب الفصل بينهما.
وللحديث عن وواقع أدب الأطفال في عالمنا العربي والإسلامي، وأهمية القيم والمضمون في أدب الأطفال، والقيم التي لم يكتب فيها أحد، وموقع القصة كوسيلة من وسائل تربية الطفل في واقعنا اليوم، حاورت (بصائر) الكاتبة والأديبة والشاعرة عائشة ديب، الباحثة في أدب الأطفال، والمدرّبة في إعداد الأبحاث ومشاريع الشباب،وعضو الأمانة العلمية للهيئة السورية للتربية والتعليم (عِلْم)، حول إصدارها الجديد (منظومات القيم في قصص الأطفال)، الذي سعت من خلاله إلى تصنيف جميع القيم، وحصر القيم التي ما لم يكتب فيه أحد، وتقديم دليل يشمل جميع المراحل العمرية، يحوي ثمانين قيمة مصنّفة ضمن ست منظومات تعدّ الأساس أو البرنامج التربوي المتكامل.
الكاتبة عائشة ديب أكَّدت في حوارها مع (بصائر) على أنَّ الجهود في مجال أدب الأطفال ما تزال فردية لا تخضع لتنسيق ولا لكثير خبرة فيما يجب تقديمه في مختلف المراحل العمرية. مضيفة القول: "نفتقد التسلسل النفسي والتربوي، لا جهات تقدّم معايير وتراقب الأداء".
وأوضحت: أنّه على الأديب أنْ يجيب على تساؤلات الأطفال، وإلاّ فهو نشرة إخبارية. وقالت: "عادة تسيطر الأوامر والنواهي على التربية، ويخلو الأمر من الخيال والتحليل والمقارنات، فيتحوَّل الطفل إلى متلقٍ مستسلم لصناديق جاهزة ووجبات عقلية قد تكون متعفنة وفاسدة".
وشدّدت على أنَّ كلّ ما يعانيه الآباء والمربّون مع أبنائهم هو نتيجة ثغرات تربوية، وما يفوت على المربّي تقديمه في عمره الطبيعي بشكل عفوي يصبح تقديمه محرجاً عند الكبر، ويشكل تحدياً لدى الناشئين ويمنع استقرارهم النفسي.
وحول سؤال (بصائر) عن أبرز ما توصلت إليه في كتابها (منظومات القيم عند الأطفال)، قالت : "النتيجة الكارثية والحقيقة المرَّة التي وصلت إليها أنَّ هناك أربعين قيمة لم يكتب فيها أحد، أي أنَّ القصص التي في السوق العربية تنشئ أنصاف شخصيات ولا تنشئ شخصيات متكاملة قيادية قادرة على النجاح والتعايش وفهم الحياة وحلّ مشكلاتها الاجتماعية". فإلى تفاصيل الحوار مع الأديبة والشاعرة عائشة ديب:
بصائر: ما الفكرة الرئيسية للكتاب، وما الهدف الأبرز من تأليفه؟
عائشة ديب: خلال خبرتي لـ 12 سنة في التدريس والتدريب، وعضويتي في عدّة منظمات تعليمية، تعاملت مع جميع الفئات العمرية، وعرفت احتياجات الطلاب النفسية والتربوية، وأدركت كأمّ حاجة الأطفال إلى نوعٍ جديدٍ من القصص تنمّي شخصياتهم، وتساعد الأهل في التربية.
النتيجة الكارثية والحقيقة المرَّة التي وصلت إليها أنَّ هناك أربعين قيمة لم يكتب فيها أحد، أي أنَّ القصص التي في السوق العربية تنشئ أنصاف شخصيات ولا تنشئ شخصيات متكاملة
ومن حاجة الأمهات والمعلمات إلى منهج قصصي تربوي يخاطب جميع الفئات العمرية، بحثت في المكتبات المحلية والدولية بهدف الحصول على أفضل ما أنتج في أدب الأطفال، فوجدت أنَّ الجهود مازالت فردية محدودة، وهناك قيم تربوية لم يكتب فيها أحد.
فقرَّرتُ أن أقوم بعمل دراسة للموضوع أصنّف القيم جميعاً، وأحصر ما لم يكتب فيه أحد، استغرقت قرابة السنة، وعملت على المحاور التالية:
1. رجعت إلى الاحتياجات النفسية للمراحل العمرية من خلال البحث في علم النفس التربوي وعلم نفس النمو.
2. وعملت بعد ذلك قائمة بالقيم تشمل كلّ ما يحتاج إليه الأطفال والناشئون من القيم المهمة والركائز الأساسية بالاعتماد على منظومات "وايت"، وسؤال المختصين من أدباء وتربويين.
3. وقسّمت المراحل العمرية للأطفال إلى 3 مراحل بحسب أغلب الدراسات النفسية والتربوية، ليكون لكل مرحلة ما يناسبها من كل مجموعة.
4. ثمَّ رتبت القيم تبعاً لأولويتها التربوية بالقياس على احتياجات كل مرحلة في علم النفس.
كلّ ما يعانيه الآباء والمربّون مع أبنائهم هو نتيجة ثغرات تربوية، وما يفوت على المربّي تقديمه في عمره الطبيعي بشكل عفوي يصبح تقديمه محرجاً عند الكبر ويشكل تحدياً
وقد أحصيت في النهاية أكثر من ٤٠ موضوعاً لم يكتب فيه أحد، وضعتها ضمن الدراسة ليسهل الرجوع إليها والاستفادة منها.
أقدّم هذه التجربة لقرائي الأعزاء أملاً في الاستفادة منها والوصول للطريقة المثلى في التربية والتعليم.
بصائر: كيف تقيّمين حالة "أدب الأطفال" في عالمنا العربي والإسلامي؟
عائشة ديب: نحن في حالة وعي كبير فيما يتعلّق بأدب الأطفال، لكن الجهود ما تزال فردية لا تخضع لتنسيق ولا لكثير خبرة فيما يجب تقديمه في مختلف المراحل العمرية، نفتقد التسلسل النفسي والتربوي، لا جهات تقدّم معايير وتراقب الأداء، ولا ثقافة دارجة بضرورة التأني والدراسة قبل تقديم قيمة جديدة للطفل، بحيث يتم بناء شخصيته تدريجياً ضمن تسلسل تربوي يضمن متانة البناء.. وهذه المشكلة عند العرب والغرب معاً، فما يزال في الغرب كذلك ضياع وتخبّط بما ينبغي تقديمه للطفل صغيراً كان أو ناشئاً.
- كلّ ما يعانيه الآباء والمربّون مع أبنائهم هو نتيجة ثغرات تربوية، وما يفوت على المربّي تقديمه في عمره الطبيعي بشكل عفوي يصبح تقديمه محرجاً عند الكبر ويشكل تحدياً لدى الناشئين ويمنع استقرارهم النفسي.
- الاعتماد في غالبه على الترجمة، وهو ما يعني تقديم محتوى غير متناسب مع ثقافة الطفل وبيئته، ويعني جعل الطفل كبيراً يقدّم له كلّ شيء مع الانفلات الكامل والمطلق على كلّ شيء مكتوب، لأنَّه بالنسبة للأهل يعتبر آمناً من المحتويات المرئية.
- الاعتماد على الحكاية الشعبية والأساطير والقصص التاريخية الخاصة بعصر معين، وهو ما يفصل الطفل عن واقعه ويبعده عن إدراك حقيقة الحياة، ويحدث عنده لاحقاً صراعاً بين الواقع والقيم التي نشأ عليها، وقد يظنّها قيماً وهي مجرّد عادات أو حتّى خرافات.
فمثلاً: يقدّم لطفل السَّادسة قصص أبطال التاريخ والحروب، وهو أمر مبكر جداً يخلق نزعة عدوانية لدى الطفل، إذ لا تكتمل في شخصيته في هذا العمر الصغير حاسّة التفريق والتحليل المنطقي، بل هو كتلة من الطاقة توجّه في كلّ مكان، وقد تحلّ محل الحوار والنقاش العقلي، ولا بدَّ لهذا النّوع من القصص أن يكون بعد العاشرة؛ لأنَّه العمر المناسب لتحديد المثل العليا، وتذكرها في باقي مراحل الحياة.
الطفل يعي ما يقدّم له منذ ولادته ويتم تخزينه لحين ينمو مركز اللغة ويكون قادراً على التعبير عمَّا تلقاه طوال الفترة السَّابقة
لا بدَّ أن يتوحّد الطفل مع المثل العليا عن طريق العاطفة والخيال، وهنا يظهر دور أدبُ الأطفال.
- كذلك يغيب أدب الأطفال عن مرحلة ما قبل المدرسة ظناً من الكتّاب أنَّ الطفل لم يتكون عقله بعد، وأنَّ اللغة هي مقياس الفهم، بينما يستقل مركز اللغة في الدماغ عن المراكز الأخرى كالذاكرة والتركيز وغيرهما، وهو ما يعني أنَّ الطفل يعي ما يقدّم له منذ ولادته ويتم تخزينه لحين ينمو مركز اللغة ويكون قادراً على التعبير عمَّا تلقاه طوال الفترة السَّابقة.
- وجدت في السّوق العربية سلاسلَ قصصية كثيرة وجيّدة، لكن ما يزال لدينا تقصيرٌ كبيرٌ، فالقصص ليست مرتبة ترتيباً منطقياً بل عشوائياً، ولا هي موجهة لفئة عمرية محدّدة، فالأهل لا يعلمون ما الذي ستقدّمه القصة ولا لأيّ عمر، كما أنَّ هناك قيماً لم يكتب فيها أحد/ أحصيت أكثرَ من أربعين قيمة هرب منها الكتّاب، وتتحاشاها دورُ النشر خوفاً من غرابتها، بينما التربية وتنشئة الشخصية السويّة لا بد أن تحمل بعض التميّز الذي هو في حقيقته غرابة، لا أحد يتحدّث عن الزّواج المتكافئ، بل يتم القفز فوراً لقصص الحبّ قبل تأسيس قاعدة صلبة لدى الناشئين، ولا أحد يتحدّث عن الحرية وهي أمر يتعلّمه الطفل قبل تعلّم الصدق وقبل قيم كثيرة ضرورية، فالصدق خيار بديل عن الكذب لا يمكن اختياره دون حرية، والنتيجة أنْ يطالب الناشئ بالحرية على شكل فوضى وتهوّر وتعدٍّ على الآخرين، ولا أحد يتحدَّث عن الاستثمار الإنتاجي، ثمَّ نشكو من البطالة وتضييع الأوقات، ولا عن العمل التطوّعي، ونشكو من تفكك المجتمع وعدم الإحساس بالآخرين، ولا يتم تقديم الرّعاية النفسية في القصص حتّى في القصص الديني، بل يتم إعطاء أوامر مشفوعة بالكثير من الأحاديث والآيات الكريمة دون تقديم جرعة عاطفية للطفل، وهو ما يصنع تديناً متحجّراً غير قادر على التحليل والتطوير.
لا أحد يتحدَّث عن الاستثمار الإنتاجي، ثمَّ نشكو من البطالة وتضييع الأوقات، ولا عن العمل التطوّعي، ونشكو من تفكك المجتمع وعدم الإحساس بالآخرين
بصائر: أين تكمن قيمة وموقع "القصة" كوسيلة من وسائل تربية الطفل في واقعنا اليوم؟
عائشة ديب: لا بدَّ للأدب أن يجيب على تساؤلات الأطفال، وإلاّ فهو نشرة إخبارية.. عادة تسيطر الأوامر والنواهي على التربية، ويخلو الأمر من الخيال والتحليل والمقارنات، فيتحوَّل الطفل إلى متلقٍ مستسلم لصناديق جاهزة ووجبات عقلية قد تكون متعفنة وفاسدة، ولا يمكنه رفضها ولا مناقشتها، فالأذن والعين وباقي الحواس تعمل وتتلقى كلّ شيء في آنه.
الطفل يتقبل جميع أنواع الأوامر، ولكنَّه لا يتفاعل معها جميعاً بنفس الدَّرجة، ولا يصبح منتجاً إلاَّ إذا كان أسلوبُ تقديم المعلومات والتعليمات ممَّا تحبُّه النفس البشرية عموماً، والأطفال بشكل خاص.
عادة تسيطر الأوامر والنواهي على التربية، ويخلو الأمر من الخيال والتحليل والمقارنات، فيتحوَّل الطفل إلى متلقٍ مستسلم لصناديق جاهزة ووجبات عقلية قد تكون متعفنة وفاسدة
حكايات ما قبل النوم تعني للطفل الكثير، وهي طريقة للتواصل الأبوي والإشباع العاطفي قبل أن تكون أداة لنقل المعلومات والتوجيه؛ ذلك أنَّ القصة تعتمد على أربعة عناصر: اللّغة، المعلومة، الخيال، والعاطفة؛ ينبغي توظيفها جميعاً لخدمة العقل البشري الهائل الذي ينمو تدريجياً، ويحتاج إلى جرعات واعية بالتزامن مع النضج والتواصل الاجتماعي والانفتاح الحضاري.
وهكذا، تنمّي قصصُ الأطفال التفكير الابتكاري والإبداعي والذوق الفني، وتطور ملكة الكتابة والتفكير التحليلي، وتنمي الجانب المعرفي عند الأطفال وذلك بإمدادهم بثروة لغوية هائلة.
بصائر: ما الأولويات الجامعة للقيم التربوية التي ينبغي التركيز عليها من قبل الآباء والمربين؟
عائشة ديب: قدَّمت في الكتاب دليلاً يشمل جميع المراحل العمرية، وفيه ثمانون قيمة مصنّفة ضمن ست منظومات هي الأساس أو البرنامج التربوي المتكامل؛ وهي:
القصة تعتمد على أربعة عناصر: اللّغة، المعلومة، الخيال، والعاطفة؛ ينبغي توظيفها جميعاً لخدمة العقل البشري الهائل الذي ينمو تدريجياً
- منظومة القيم الاجتماعية.
- منظومة القيم الجسمانية.
- منظومة القيم الاقتصادية.
- منظومة القيم الفكرية الثقافية.
- منظومة القيم السياسة.
- منظومة القيم الوطنية.
وتحتوي هذه المجموعات على ثمانين قيمة تحتاج إليها النفس البشرية لتكون سوية خالية من الثغرات والمشكلات، قادرة على صناعة الحياة كما يتم رسمها وردية زاهية حالمة عند الطفولة.
حكايات ما قبل النوم تعني للطفل الكثير، وهي طريقة للتواصل الأبوي والإشباع العاطفي قبل أن تكون أداة لنقل المعلومات والتوجيه
بصائر: ما أبرز النتائج التربوية العملية التي خلص إليها الكتاب؟
عائشة ديب: بعيداً عن التنظير في التربية، فإنَّ النتيجة الكارثية والحقيقة المرَّة التي وصلت إليها أنَّ هناك أربعين قيمة لم يكتب فيها أحد، أي أنَّ القصص التي في السوق العربية تنشئ أنصاف شخصيات ولا تنشئ شخصيات متكاملة قيادية قادرة على النجاح والتعايش وفهم الحياة وحلّ مشكلاتها الاجتماعية.. فالمجتمعات المريضة تبدأ من أسر مريضة لا من قادة مرضى.