من بين أهم المفاهيم التي يتم تداولها من دون الحذر الواجب في بعض أوساط الحركة الإسلامية، وعلى نطاق واسع في الأوساط الأكاديمية والسياسية في عالمنا هذا، عبارة أن "القوة تخلق الحق وتحميه".
وهي في حقيقة الأمر مقولة خاطئة على طول الخط، وتحمل في طياتها طرحًا غربيًّا بحكم عامل مراكز القوى في عالم اليوم؛ حيث فرضت الحضارة الغربية بمحتواها المسيحي – اليهودي، قيمها الفكرية والمادية على العالم؛ فطغى طابعها البراجماتي المادي على مقولاتها الأساسية، والتي من بينها سيادة القوة بمعناها المادي، حتى وإن فقدت بُعدها الأخلاقي، أو خَلَتْ من المحتوى القيمي سواء في كيفية استخدامها، أو فيما تحميه من "حقوق".
في المقابل، تختلف قضية "الحق" في الإسلام، تمام الاختلاف عن المفهوم الذي تحمله هذه العبارة في المفاهيم والفلسفات الغربية، والذي لم يقُد العالم إلا إلى الخراب والدمار.
تختلف قضية "الحق" في الإسلام، تمام الاختلاف عن المفهوم الذي تحمله هذه العبارة في المفاهيم والفلسفات الغربية، والذي لم يقُد العالم إلا إلى الخراب والدمار
وفي السياق التاريخي يبدو الفارق واضحًا تمامًا؛ حيث قاد تمجيد القوة على حساب "الحق" والقيمة من جانب القوى المنتمية إلى الحضارة الغربية إلى حروب طويلة، زاد بعضها على ثلاثمائة عام، كما في الحروب الدينية التي سادت أوروبا منذ القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر، فيما أدت الحربان العالميتان الأولى والثانية، إلى مقتل ما يقرب من مئة مليون إنسان!
الحربان العالميتان على وجه الخصوص، اندلعتا لمجرد أن ظنَّ أحد أطرافها في البداية، اختلال موازين القوى لصالحه على حساب خصومه، فبدأ في غزو جيرانه، كما في حالة ألمانيا واليابان، لأن اختلال موازين القوى لصالحه، منحه "الحق" في أن يفعل ذلك.
في الإطار، كرَّست هذه العبارة بهذا المعنى، العديد من الظواهر السلبية في السياسة العالمية، دفع الضعفاء وحدهم – وهم في الغالب من العرب والمسلمين – ثمنها من حياتهم وأعراضهم وثرواتهم، وأمن شعوبهم وبلدانهم وأقواتهم.
فهذا المبدأ منح صاحب القوة "الحق" في استغلال الآخرين واستعبادهم والاستيلاء على خيراتهم، لمجرد أنه هو الأقوى بالمعيار المادي.
تحرير المفهوم:
ولفهم نظرة الإسلام إلى قضية "الحق"؛ فإننا أولاً يجب أن نحرر المفهوم في مختلف الاتجاهات، اللغة والاصطلاح والشرع.
أولاً "الحق" في اللغة، يعني الشيء الثابت الذي لا يمكن ولا يكون مقبولاً إنكاره، وفي الاصطلاح، فإن "الحق" هو الحكم المطابق للواقع.
وكلا التعريفَيْن مطلقٌ في طريقة تناوله للمفهوم؛ حيث الحق "ثابت" و"لا يجوز إنكاره" و"مطابق للواقع"، ومن ثَمَّ؛ لا مجال للتأويل أو التحريف فيه، أو إسباغ أمور لا تتعلق بالواقع أو الثابت به، مثل أن تدخل "القوة" أو "السيطرة" أو أي شكل من أشكال التأثير، بالتغيير عليه.
ويزيد على ذلك تعريف آخر للحق في بعض المدارس الفلسفية والفكرية، وهو أن "الحق" هو "الواجب الثابت والمؤكد"، وهذا بدوره إطلاق لا يجوز معه التدخل بأية وسيلة لتغييره، وإلا أصبح الأمر يدخل في إطار الباطل، وهو المعادل العكسي للحق.
إحقاق "الحق" هو أحد أهم صور "العدل"، وبالعدل تستقيم الدنيا، ويستقيم الكون، ومن دون العدل تنهار الأمم والحضارات
وإحقاق "الحق" هو أحد أهم صور "العدل"، وبالعدل تستقيم الدنيا، ويستقيم الكون، ومن دون العدل تنهار الأمم والحضارات.
ولذلك، كان "الحق" هو أهم مجالات الفلسفات الإنسانية، منذ أن ظهرت مدارس الفكر الإنساني المختلفة، فهو أحد أهم مداخل مبحث "القيم"، أو الأكسيولوجي (Axiology)، الذي هو أحد مباحث الفلسفة الثلاث، باعتبار أن :الحق" أحد القيم المطلقة التي لا يجوز تبديلها أو إدخال أي تغيير ذاتي النزعة، لشخص او لأمة أو لمجتمع، عليها.
وبما أن الإسلام قد نزل من لدن حكيم عليم بمَن خلق، وهو اللطيف الخبير، فهو قد نزل مواكبًا للفطرة، ولذلك فقد حمل تعريف "الحق" لدى الفقهاء وعلماء الشريعة، ذات الإطلاق الذي حمله في اللغة والاصطلاح والفلسفة.
ففي الشريعة؛ فإن "الحق" هو ما منحه الشارع الحكيم للناس كافة على السواء، وألزم كلاًّ منهم باحترامه وعدم الاعتداء على ما هو لغيره، وبالتالي؛ فهو الشيء الثابت لله سبحانه وتعالى على عباده، أو للإنسان على الغير، بمقتضى الشرع.
وللحق مصادر في الإسلام، وهي مصادر ثابتة لا تتبدل بدورها، ولا يوجد فيه أي مجال للذاتية؛ حيث تتمحور في القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية الثابتة.
ولقد جعل رب العزة سبحانه المصلحة هي محل "الحق"، والمصلحة ثابتة بدورها؛ حيث لا خلاف على مفهومَيْ المصالح والمفاسد في الشريعة الإسلامية؛ فهما محددان بدقة، في القرآن وفي السُّنَّة، سواء المصالح الثابتة لله تعالى، مثل الفروض، أو للإنسان، مثل حفظ ماله وعرضه ونفسه، إلا بالحق الذي أقرته الشريعة الإسلامية كذلك.
وتأتي القوة في "الحق" في الإسلام، في مجال حمايته، وبالتالي؛ فإن القوة المادية في الإسلام لا مجال لاستخدامها في الاعتداء على حقوق الآخرين، لمجرد اختلال موازين القوى المادية بين طرفَيْن أو أكثر.
القوة مشروعة لدفع الضرر، وحماية حقوق وبالتالي مصالح الفرد والمجتمع المسلمَيْن، وصولاً إلى مصالح الأمة بالكامل، وإتاحة المجال أمام المسلمين لتأدية حقوق الله عز وجل عليهم
وفي هذه الحالة؛ فإن إعداد القوة بمختلف صورها، المادية والمعنوية؛ هو واجب، وليس اختيار، في إطار سُنَّة التدافع، فالقوة هنا لدفع الضرر، وحماية حقوق وبالتالي مصالح الفرد والمجتمع المسلمَيْن، وصولاً إلى مصالح الأمة بالكامل، وإتاحة المجال أمام المسلمين لتأدية حقوق الله عز وجل عليهم، من صلاة وصيام وحج وغير ذلك من فروض.
ومن دون قوة تحمي هذه الحقوق؛ لن يتمكن المسلم من أداء رسالة خلق الإنسان الأساسية، وهي عبادة الله الواحد لا شريك له، وإقامة عقيدة التوحيد في الأرض.
وبالتالي؛ فإن القوة في الإسلام، بـ"حقها"، إنما هي وسيلة سلام، ومن دونها سوف تسود مفاهيم الآخرين الفوضوية التي تعتمد شريعة الغاب، وغلبة الأقوى حتى ولو كان الأظلم، على مقدرات الضعفاء!
وفي الأخير؛ فإن ملخص ما سبق، فإن "الحق" في الإسلام مفهوم مطلق، غير نسبي، وتحدد معالمه الفطرة السليمة، وما قررته الشريعة الإسلامية، والقوة يجب أن تحميه؛ لا أن تكون القوة هي معيار تحديد "الحق"، وإلا تحولت الدنيا إلى سيادة الغالب دائمًا، حتى ولو كان معتديًا أو ظالمًا.