عملنا التنظيمي مؤهل للاستفادة من العلوم التطبيقية وهو مطالب بذلك، وهياكلنا الحركية قادرة على الأخذ ببعض النظريات العلمية الحديثة.
والتشبيه بين الأمثلة المحسوسة والأفكار المجردة يعين على الفهم والإدراك، وللمسألة شواهد في المنهج التربوي الإسلامي وفي النصوص إشارات ودلائل.
قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام:153]. فإذا عرفنا أن علم الرياضيات الحديثة يفيدنا بأن الخط المستقيم هو أقصر الطرق للوصل بين نقطتين، ازداد إدراكنا لحقيقة أن الإسلام هو أقصر الطرق وأصوبها وأسلمها والذي يوصلك مباشرة لنيل رضى الله تبارك وتعالى ودخول جنته.
والدعوة تريدك مؤثراً قوياً تعيش في المركز فيدور الناس من حولك انسجاماً مع قوانين الجاذبية في علوم الفلك والكيمياء. وقد أصّل الراشد لهذه الأفكار في فقهه الدعوي ففصّل ودعاك لفهم مظاهر التكوير والتدوير في الكون، وحثك على إدراك أثر الزوايا، والاستفادة من قوتها وحدّتها وآليات التقائها؛ لتوسيع خيارات العمل وأساليبه وتراكيبه المتعددة، وتأتي الفيزياء بقوانينها لتكمل الصورة وتثبت المعلومة، وفي مختبراتها يمكنك أن تشاهد التطبيق العملي لنظرية الأواني المستطرقة، وملخصها أن الأواني المتعددة الأشكال والأحجام والمتصلة معاً عبر قناة واحدة تحافظ على مستوى واحد إذا تمّ سكب سائل ما في أحدها، بمعنى أن المادة الموضوعة فيها تتوزع على جميع الأواني بالتساوي والتوازي مؤكدة على تكامل الجسم الواحد الكبير الذي يجمعها معاً، بحيث تعطى الأهمية والقيمة المناسبة لكل جزء فيه.
الدعوة تريدك مؤثراً قوياً تعيش في المركز فيدور الناس من حولك انسجاماً مع قوانين الجاذبية في علوم الفلك والكيمياء
والنظرية ذاتها ينبغي أن تطبق على حركتنا، وهي مهمة القيادة ابتداء وذلك في مستواها العام، ثم على صعيد القيادة المحلية في كل موقع أو إقليم، ونقصد بذلك أن يراقب القائد كل الأجهزة والأقسام واللجان الحركية التي تعمل تحت إمرته، فيرى مواضع النقص ويعالجها، ويراقب الفراغات ويملؤها، ويلاحظ مواطن الخلل فيسدها، يقتدي بإمام الصلاة يقلد وقوفه أمام المصلين يذكرهم بضرورة إكمال الصفوف، ويدعوهم إلى عدم ترك فرجة يتسلل منها الشيطان، والإمام المتقن لا يشرع بالصلاة قبل استواء الصفوف واكتمالها.
غير أن قائد الدعوة يزيد عليه بالمتابعة الدائمة والمراقبة المستمرة لكل مجالات العمل وميادينه، لا يلتفت عن العاملين خلفه طرفة عين، بل هو أقرب إلى قائد الجيش في المعركة يحصن دفاعاته ويشجع هجومه وينسق تحركات الميمنة والميسرة، ويوزع قواته بحيث لا يترك ثغرة يخترق العدو من خلالها.
ولعموم الدعاة دور في استكمال تطبيق هذه النظرية، وذلك بالاستعداد التام للعمل في كل موقع، والجاهزية الكاملة للانتقال من لجنة دعوية إلى أخرى، أو العبور من ميدان إلى آخر يشكو نقصاً في القدرات والإمكانيات، ولا بأس على المجاهد أن يعرض نفسه أحياناً على القيادة ويضع نفسه تحت تصرفها لتضعه حيث تشاء.
على القائد أن يراقب كل الأجهزة والأقسام واللجان الحركية التي تعمل تحت إمرته، فيرى مواضع النقص ويعالجها، ويراقب الفراغات ويملؤها، ويلاحظ مواطن الخلل فيسدها
وربما تشاهد من موقعك ثغرة لا يعرفها المسؤول فتلفت انتباهه إليها بعد أن تضرب بقبضة يدك على صدرك وتقول ها أنا ذا! خاصة عندما يتعلق الأمر بساحات الوغى وميادين المقاومة والتي ثمنها الروح والدماء، ومجالها الجبال والخنادق، ووسائلها البارود والبنادق.
وجدير بقادة حماس وجندها أن يتقنوا فنون هذه النظرية وأن يتعاملوا معها بحكمة وفطنة وسعة أفق وصبر يتناسب مع العمل داخل المختبرات العلمية، وقد رأينا لها تطبيقات إيجابية وفعالة في كثير من الأحيان. لكن التجربة تضع بين أيدينا حالات أخرى ظهر فيها الخلل وبان فيها النقص والتردد، وارتكبت في بعضها خطيئة التولي يوم الزحف، ونحن حركة مقاومة يتعرض رجالها للغياب عن الساحة بسبب القتل أو السجن، فيحدث الفراغ، فتسارع القيادة أو من تبقى منها لاستكمال النقص، وهي أمانة في أعناقهم، فإن غاب رجال العمل الدعوي والتربوي سارعت القيادة لتقديم غيرهم، وإن مضى بعض السياسيين والإعلاميين تقدم آخرون، ونرى الدعاة يملؤون الفراغات في مختلف القطاعات الحركية الأخرى، وتجتمع القيادة لتقرر الأسماء الجديدة وترشح من يناسب كل موقع، لكننا في بعض الحالات نرى تقاعساً وإرباكاً في تطبيق نظرية الأواني المستطرقة عندما يتعلق الأمر بالعمل المقاوم.
وحين يغيب قادة القسام عن الميدان، وربما ترك العمل والقرار لبعض الجند العاملين في الساحة أو المتوارين في الجبال، وقد نرى لواء الجهاد سقط أو يكاد فلا يتقدم الرواحل لحمله ورفعه، وكأني ببعضهم يراقب الآخر يتمنى لو أنه يعفيه من الإقدام والمبادرة وما هكذا تكون مواصفات القائد، ولنا في خالد بن الوليد قدوة في غزوة مؤتة حيث تحمل المسؤولية العليا عندما لاحظ استشهاد القادة وغيابهم عن المعركة.
واجب الوقت وفقه الواقع يلزمنا بتغطية أي نقص في العمل المقاوم قبل غيره، فهو الأولى والأهم والأبلغ أثراً
وتوزيع الطاقات والعناصر على مختلف القطاعات أمر متفق عليه في منهجنا ولا خلاف عليه، لكن حماس تتحرك تحت الاحتلال والمقاومة صلب عملها وأساس وجودها، ولا ينبغي أن يكون في قيادتها إلا رجال مجاهدون كما أن واجب الوقت وفقه الواقع يلزمنا بتغطية أي نقص في العمل المقاوم قبل غيره، فهو الأولى والأهم والأبلغ أثراً، ونحن لا نقلل من أهمية كل اللجان العاملة في الحركة بل نعرف لكل قدرها.
وقد أدرك الصحابة الكرام فضل الجهاد في سبيل الله وأجر المشاركين فيه فتسابقوا للانضمام للركب وامتطوا صهوات الجياد حتى كادوا يتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، دون أن يبقى عنده من يأخذ عنه العلم والدين، فنزل قول الله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122].
وأهل حماس أولى بالنفير وأجدر بتلبية النداء والقادة عندهم في المقدمة ومن يطلب منه التفرغ لعمل آخر أو سدّ نقص في ميدان لا تصله غبار المعارك، فعليه بالطاعة والالتزام وأن يعود إلى مكانه استجابة لدعوة إخوانه، لكنه يرجع وعيونه تفيض من الدمع حزناً بذلك القرار ويظل يتطلع إلى يوم قريب يفتح له فيه المقاومة والمراغمة لأعداء الله.
ولسنا هنا نتهم أحداً، لكنها حالات يعرفها أهل التجربة، ويدركها المقربون من الأمور، والمسألة نسبية وفيها تفاوت من منطقة لأخرى، وقد يحدث التباين في المنطقة الواحدة في مرحلة وأخرى.
تبقى نظرية الأواني المستطرقة منقوصة وإن نجحت حتى تنضم إليها أخواتها الفيزيائيات وبنات أعمامها وأخوالها في بقية العلوم والمعارف
والمتتبع لمسيرة حماس يرى الأمر عند أهل غزة أدق وأبلغ والظروف تساعدهم في الفترة الأخيرة والأوضاع عندهم لها أثر. لكن للقيادة دورٌ لا ينكر وفضلهم مشهود، والخير عند كل إخواننا موجود، والمتقدم يأخذ بيد المتأخر، والسابق ينتصب قدوة لغيره.
والمجاهد يحاسب وحده عند الله، ورب داعية سبق ألفاً من إخوانه، والانتساب لمنطقة ما ليس مقياساً للتفاضل في صفنا، والأخ يقدر بعمله وتضحياته ووعيه ويقدم من أجل ذلك.
وتبقى نظرية الأواني المستطرقة منقوصة وإن نجحت حتى تنضم إليها أخواتها الفيزيائيات وبنات أعمامها وأخوالها في بقية العلوم والمعارف.
فيكتمل المشهد، وتقترب النهاية مزينة بالنصر والتمكين، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.