إن الحديث عن بناء الشخصية الإسلامية الحرّة هو حديث فضفاض رحب لا يحدده مجال ولا فضاء؛ ذلك لأن الشخصية كيان قائم مستقل بذاته متفرد في طبيعته وتركيبته، فهي تستقي جذورها من نهج ثلاثي الأبعاد؛ عقيدة ورسالة ودعوة، وقد أولاها الإسلام عنايةً خاصةً مرموقةً لأنه عرف أن أصل الحياة حرية.
وتعتبر الحريّة واحدة من أنفس القيم الإنسانية التي يسعى إليها البشر جميعاً، بل وتعتبر مطلباً سامياً من أعلى المطالب الضرورية لاستمرارية الحياة، وهي عبارة عن نظام متكامل ومتوازن يشمل كل الاستعدادات والمقومات التي من شأنها أن تدافع عن "ما وهبه الله للإنسان من مكنة التصرف لاستيفاء حقه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء"، كما قال الدكتور يوسف محمد أبو سليمة في كتابه مفهوم الحرية من منظور الإسلام.
وإنه لمن الغني عن القول أن نقول إن الإسلام هو أصل الحرية ومصدرها، فقد وردت العديد من النصوص التي من شأنها أن تؤكد على ذلك حتى في اختيار المعتقد كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان:3].
و يعتبر الإيمان والمعتقد من أهم الأمور التي تقوم عليها حياة الفرد الدنيوية والأخروية ، ومع ذلك فقد منح الإسلام الفرد حقه في أن يقرر مصيره بذاته، ويختار ما يناسبه ويلائمه وحمّله مسؤولية ذلك، وهذا هو العدل كله، الأمر الذي لا تتقبله الديانات الأخرى، فهي ترفض أن يكون للآخر حق في رفض نهجها: {ولَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
لفتني قول للدكتور المفكر أحمد زكي يقول فيه: "فالله صمَّم جسم الحيوان وركَّب هيكله كأنه لم يرد من هذا التصميم أن يتمكن الحيوان من النظر إلى السماء وذلك لأسباب عدة من أهمها: أنه مع عقله العاجز لا يستفيد من هذا النظر شيئًا، وعلى غير هذا الطراز صمَّم ربنا جسم الإنسان وركَّب هيكله، فالإنسان عقل زاخر كثير الوعي، وهو قادر كثير القدرة، فهو يستفيد من النظر إلى السماء أكبر استفادة ويَلقى في سبيل هذا النظر بعض المشقة، ولكنها تهون في هذا السبيل الذي هو فيه".
توأمة الحرية والمسؤولية:
لقد راعى الإسلام الحرية والمسؤولية ورعاهما، وحرص على أن يتماشيا معاً في علاقة تكامل وتلازم؛ حتى تكون الحرية الإنسانية نشطةً فاعلةً ضمن أطر القدرة، وتكون المسؤولية مشروعاً نبيلاً نافعاً لإرادتنا الخيّرة، وذلك كله حتى تنصب في مصلحة الفرد فالجماعة فالإنسانية جمعاء.
الحرية المطلقة غير المقننة هي سلوك حيواني بحت، يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، ولا يليق بكرامة الإنسان
أما الحرية المطلقة غير المقننة فهي سلوك حيواني بحت، يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، ولا يليق بكرامة الإنسان الذي يحمل في جوفه نفخة من روح الله، فهي تحوله إلى عبد لذاته وتبعده كل البعد عن مرام الحرية التي ينادي بها.
وتماشياً مع المسؤولية التي لابد وأن نحملها كمربين مسؤولين عن رعايانا أمام الله حسبما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" أن نمنع أنفسنا وأهلينا من الوقوع في وحل التقليد الأعمى، الذي من شأنه أن يطمس الهوية الإسلامية ويبث مفاهيم قاصرة لرعاياها، أولها الانصياع وراء المجريات التي تشوه مفهوم الاعتزاز العقدي، فالعالم اليوم يشهد ذكرى صليبية بحته يحتفل بها بعض المسلمين مع غيرهم من رعايا الكنيسة تسمى بـ"عيد الهالوين" والذي يقصد به عيد القديسين، وحسب مصدر كنسي عربي يرجح أن عيد الهالوين هو عيد "الشياطين" نظراً لمجموعة رموز يتم عرضها على الأطفال تمثل في السحرة والشياطين والمشعوذين، وهي تماثيل غير سليمة تربوياً؛ لما تبثه من شر وإيذاء للأطفال وخيالهم.
يستفزني كم الجهل الهائل الذي يتمتع به بعض المربين المسلمين اليوم حيث يسمحون لأطفاهم بالاحتفال بهذا اليوم تماشياً مع أقرانهم أو إيماناً منهم أنه محض احتفال من شأنه أن يدخل السرور على قلوبهم، فهو لا يقدم ولا يؤخر، نعم عزيزي المربي هو لا يقدم ولا يؤخر ولكنه يسحق كل مفاهيم التوازن عند طفلك؛ لأن الطفل مشروع إنسان متزن يتأثر ويؤثر، فما بالنا لو كان أطفالنا هم فقط المتأثرون؟ ما هي الثمرة التي سنجنيها من حشو عقولهم بما يضرهم ولا ينفعهم؟
عيد الهالوين هو عيد "الشياطين" نظراً لمجموعة رموز يتم عرضها على الأطفال تمثل في السحرة والشياطين والمشعوذين، وهي تماثيل غير سليمة تربوياً؛ لما تبثه من شر وإيذاء للأطفال وخيالهم
إن السماح لأبنائنا ولذواتنا بالانصياع وراء مثل تلك الاحتفالات تبث فينا رسائل سلبية ضخمة، تمنعنا من التكيف الاجتماعي الذي هو أصل تكوين الإنسان، فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي يسعى إلى الوصول لبر الأمان وذلك لن يحدث إلا إذا توازن وتكامل فكره مع معتقده.
إن حالة التخبط التي نرسمها بذهن أطفالنا تجعل منهم محض نسخ في هذا الدين وتعيق تقدمهم الحركي والدعوي ، لأننا نكون قد وصلنا بهم إلى دوامة من الأسئلة التي نعجز عنها نحن كمربين، فماذا لو سألك طفلك لماذا يحتفل مع صديقه المسيحي بالرغم أنه مسلم؟ بماذا ستجيبه؟ وكيف ستعزز انتماءه لعقيدته الغراء؟ إن كل حرية لا تؤدي الواجب أو تخون الأمة من شأنها أن تكون حرية ضائعة ترمي بنا إلى التهلكة ، لأننا نكون قد اختزلنا جوهر الحرية وحولناها إلى كلمة مجردة لا تفي إلا بالغرض الشخصي.