تمر بنا هذه الأيام ذكرى ما يُعرف بـ"يوم اللا عنف العالمي"، أو "اليوم الدولي للا عنف"، فيما أمتنا تحفل بالصراعات الدموية التي استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة، الناعمة والصلبة.
ونرى الآن الكثير من الظواهر التي تتعارض مع هذه المناسبة، تحدث كل دقيقة بين ظهراني أمتنا التي ابتُليت بالكثير من الصراعات المسلحة والحروب وأعمال العنف المختلفة الأشكال والأنواع، والتي تركت حدود بلدان العالم العربي والإسلامي، وطالت مجتمعات المسلمين في بلدان المهاجر والاغتراب.
ويدعم ذلك منظومة إعلامية و"فقهية" تستميت محاولةً "تأصيل" العنف واستخدام القوة المسلحة، باعتبارها وسيلة المسلم الوحيدة في الوصول لأغراضه، وتكفير الآخر المسلم، ما دام أنه يرفض هذه الأفكار.
مهام المسلم وكيف يؤديها؟
تُعتبر مهمة المسلم الأولى، هي عبادة الله تعالى على عقيدة التوحيد، وفق تعاليم الشريعة التي أنزلها الله تعالى على عبده ونبيه، محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم". يقول تعالى في سُورة "الذاريات": {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)}.
الإنسان عندما يتعبَّد يدخل في حالة من السكينة والهدوء النفسي، وتُعتبر هذه الحالة، ومقدار ما وصل إليه الإنسان منها خلال عبادته؛ مقياسًا مهمًّا من مقاييس إخلاصه فيها
والإنسان عندما يتعبَّد، وخصوصًا في الصلاة والصيام والقيام؛ فإنما يدخل في حالة من السكينة والهدوء النفسي، وتُعتبر هذه الحالة، ومقدار ما وصل إليه الإنسان منها خلال عبادته؛ مقياسًا مهمًّا من مقاييس إخلاصه فيها، وبالتالي نصيبه من الأجر، كما يرى بعض الفقهاء، على الأقل بالمنطق النبوي القائل: "ليس للمرء من صلاته إلا ما عَقِلَ منها" [أخرجه أحمد بإسناد صحيح].
ولدينا كذلك من بين المهام الجسام الملقاة على عاتق المسلم، نشر دعوة الله تعالى في ربوع الأرض، والقرآن الكريم في هذا الأمر، محدد في قوله تعالى، في خواتيم سُورة "النحل"؛ حيث يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}.
وتردف الآيات بالقول مما يؤكد المعنى على علم الله تعالى بمشاق مهمة الدعوة، وأن القائمين عليها، والساعين في سبيلها سوف يتعرضون إلى ظلم عظيم، وأعباء جمَّة من خصوم الدعوة وأعداء الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)}.
هذه الآيات بها إشارة إلى قضية استخدام العنف في بعض المواضع خلال قيام المسلم بمهام الدعوة إلى الله تعالى، في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}، ولكنه في هذه الحالة؛ تشير الآيات إلى أنه يكون في مجال رد الفعل فقط، أي في حالة التعرض لعدوان أو ما شابه.
أما لو قصد قوله تعالى نمط الأذى الذي تعرض له المسلمون الأوائل من تعذيب وكذا، لحملهم على الرجوع عن دينهم؛ فإن الآيات وضعت الصبر كأحد مراتب الإيمان، وأكدت على أولوية التقوى والإحسان في سلوك المسلم.
وهذا الأمر له شواهده التي تؤكده من صحيح السيرة النبوية؛ فمن الثابت عن النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أنه لم يغزُ أو يستخدم العنف؛ إلا لرد اعتداء أو معاقبة أحد المجرمين، كما فعل مع الثمانية من أبناء عكل، العُرنْيين، الذين قتلوا الرعاة، وسرقوا الإبل بعد أن كانوا مؤتمنين عليها، ويأكلون من خيراتها.
وفي مرحلة الخلفاء الراشدين من بعده "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، كانت حالات العنف المفرط شديدة الندرة، ولذلك يذكرها التاريخ لاستثنائيتها، مثلما فعل أبو بكر الصديق "رضي اللهُ عنه"، عندما حرَّق الفُجاءة السِّلْمي، عندما أخذ السلاح ليقاتل به المرتدين، ولكنه قتل به المسلمين والمرتدين معه، ثم إن المؤرخين يقولون إن الصدّيق قد ندم على إحراقه له بعد ذلك.
وعمر بن الخطاب الذي دانت له عروش كسرى والرومان؛ ندم أشد الندم على ضربه لرجل من عوام المسلمين، بدُرَّته المشهورة، وبكى، وعاد إليه وطلب منه أن يقتصَّ منه، وحتى أن عثمان بن عفَّان "رضي اللهُ عنه" فضل أن يُقتل، على أن يأخذ قاتله والمتآمرين على حياته، بالعنف.
ولو أتينا لمرحلة الفتنة الكبرى، التي يحتجَّ بعض خصوم الأمة بها على أن الإسلام دين عنف وربى أصحابه عليه؛ فسوف نجد أن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية قد تنبآ بها، وحذرت نصوص قرآنية ونبوية منها، وصلت لمستوى الزجر المشدد، وتشبيه هذا السلوك بالعودة للجاهلية.
فقوله عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سُورة "الأنفال" - الآية 25]؛ يشير الفقهاء إلى أن رب العزة سبحانه، كان يعني به الصحابة الكِرام خلال موقف الفتنة الكبرى، وقال بذلك القرطبي وابن كثير، وغيره.
كما أن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، قال في خطبة الوداع، مقولة جمع لها المسلمين خصيصًا، بالنص: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضُكم رقاب بعضٍ" [متفق عليه].
التدافع بالقوة وموقف الشريعة منه
إذًا، الإسلام كمنهج تربوي، لا يؤسس لأي شكل من أشكال العنف في نفوس وسلوك أبنائه.
ولكن ينبغي هنا التمييز بين هذه القضية وبين سُنَّة مهمَّة من سُنَن العمران التي وضعها الله تعالى في خلقه، وهي سُنَّة التدافع، التي وردت في أكثر من موضع من القرآن الكريم.
ففي سُورة "البقرة"، يقول تعالى: {.. وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}، وفي سُورة "الحَج"، يقول الله: {.. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}.
التدافع صنو الصراع في أبسط معانيه، ولا يوجد صراع من دون عنف، وهنا تتدخل الشريعة الإسلامية لوضع ضوابط منظِّمة له
والتدافع صنو الصراع في أبسط معانيه، ولا يوجد صراع من دون عنف، وهنا تتدخل الشريعة الإسلامية لوضع ضوابط منظِّمة له، كما هو طبيعة الشريعة؛ أنها تتصدى للظواهر الإنسانية وتنظمها في الإطار الذي ارتضاه الله عز وجل.
وفي هذا نجد أن الإسلام قد قدَّم مبدأ اللا عنف في التدافع، على مبدأ الحرب، فمن بين أسباب امتلاك القوة، الردع السلبي، من خلال امتلاك المقدرات المختلفة التي تمنع العدو من الاعتداء على الجماعة المسلمة.
وفي القرآن الكريم هذا واضح في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [سُورة "الأنفال" - من الآية 60].
وبالرغم من أن القتال قد ورد صراحةً في القرآن الكريم، إلا أنه كذلك هناك أكثر من ضابط له، في القرآن الكريم، ووضعها الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، ولقنها لأصحابه في الغزوات المختلفة، مثل عدم قتل الشيوخ أو قطع الزرع، وغير ذلك من التوجيهات النبوية التي ترشد العنف في حالات الحرب والغزو والقتال.
وهنا نقف أمام ملمحَيْن مهمَّيْن جاءا في القرآن الكريم في هذا الصدد.
الأول في قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [سُورة "الأحزاب" - الآية 25]، هنا نجد أن الله تعالى لا يتحدث عن القتال كأمر مرغوب فيه، بل هو أمر سلبي، مِنْ مِنَنِ الله تعالى على المؤمنين أن كفاهم إياه.
وتؤكد ذلك آية "البقرة": {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ.. (216)}.
الملمح الثاني، في قوله تعالى، في سُورة "الأنفال"، وهي من سوَر الجهاد العظيمة في القرآن الكريم: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}، فهنا القتال ليس مطلوبًا لذاته، ولا يجوز العدوان به على غير المسلمين، فحتى لو جنح أعداء الجماعة المسلمة إلى السلم، وكفُّوا أيدهم عن المسلمين؛ فالواجب على المسلمين قبول السلام والصلح.
والآيات التي تؤكد على المعنى السابق في القرآن الكريم كثيرة.
عمد أعداء الأمة على خلق كيانات شيطانية خرجت من بين ظهراني المسلمين، وترتدي رداء الإسلام، تقتل وتخرِّب، باسم الدين، والدين منها براء. لقلب الحقائق وربط المسلمين بالإرهاب
في المقابل؛ فإننا نرى أن خصوم الأمة قد تكالبوا عليها، بالاحتلال المباشر وسرقة الثروات وتهديد الأعراض، وهو ما يوجب استخدام العنف ضدهم، حتى يستتب السلام، ولكن عندما يعمد المسلمون إلى الدفاع عن أنفسهم؛ فإنهم يتحولون إلى "إرهابيين"!
ولقلب الحقائق وتكريس هذه الصورة الذهنية السلبية عن المسلم، وعن الشريعة الإسلامية، من خلال أدوات القوة الناعمة المختلفة، فقد عمد أعداء الأمة على خلق كيانات شيطانية خرجت من بين ظهراني المسلمين، وترتدي رداء الإسلام، تقتل وتخرِّب، باسم الدين، والدين منها براء!