بالرغم من أن القرآن الكريم، باعتباره الوثيقة التي تحوي منهاج الله تعالى وشريعته التي ارتضاها لعباده على الأرض؛ قد حرص الشارع الأعظم فيه على التأكيد على المسؤولية الفردية لأفعال الإنسان، إعمالاً لمبدأ العدل في الحساب؛ حيث إن كل إنسان أولى بما قدَّمت يداه، ولا يكون مسؤولاً عن أفعال الآخرين؛ لضعفه وعجزه عن تصويبها.
والقرآن الكريم، وبالذات سُورة "الإسراء"، حافل بالآيات التي توضح المسؤولية الفردية للإنسان عمَّا يُحاسب عليه.. {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [سُورة "الإسراء" – الآية 13].
إلا أنه في بعض المواقف؛ سوف نقف على بعض الأمور التي جعل الله تعالى، بحكمته البالغة، المسؤولية فيها جماعية، كما في قوله عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سُورة "الأنفال" - الآية 25].
والسلوك الجماعي الذي هو أكبر من مجموع أجزاء أفراده، معترفٌ به في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [سُورة "الأنعام" - من الآية 38].
المسؤولية الجماعية في الحساب للأمم إنما تأتي في حالات معينة، مثل شيوع الكفر والظلم، أو إقرار المنكرات، وشيوعها، وأن يكون ذلك برضىً عام من المجتمع
هذه الآيات السابقة تحمل نذيرًا شديد الأهمية فيما يتعلق بالمسؤولية الجماعية للأمم عن بعض الأمور العامة التي جعلها الله تعالى مفصلية، ولها تأثير على كل عضو من أعضاء هذه الأمة، مهما صَغُر أو علا شأنه.
ومن خلال تطواف سريع في القرآن الكريم؛ فإننا سوف نرى أن هذا المبدأ –المسؤولية الجماعية في الحساب للأمم– إنما يأتي في حالات معينة، مثل شيوع الكفر والظلم، أو إقرار المنكرات، وشيوعها، وأن يكون ذلك برضىً عام من المجتمع، فعندها يأتي الحساب الإلهي لا يذر منهم أحدًا، سواء في الدنيا بموجب سُنَّة إهلاك الأمم، أو في الآخرة، عندما تترى الأمم إلى النار، لاعنين بعضهم البعض!
وهنا تجب الإشارة إلى ما ذكره الطبري والقرطبي وآخرون في تفسير آية "الأنفال" المتقدمة؛ حيث هناك حالة من الإجماع بين عموم المفسِّرين، على أنها نزلت في صحابة رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، استشرافًا لما سوف يكون عليه حالهم من بعده "عليه الصلاة والسلام"، من اقتتالٍ وفتنة.
فأشار المفسرون إلى مقولات وردت على ألسنة كبار الصحابة "رضوان الله تعالى عليهم"، ومنهم الزبير بن العوام، وابن عباس، وقت الفتنة الكبرى، من أن الآية تنطبق أكثر ما تنطبق، على حالهم في ذلك الحين.
واقع المسؤولية الجماعية يحدث عندما تشيع أشكال الخلل المختلفة، وتقاعس المجتمع المسلم عن التصدي لمثل هذه الألوان من الخلل
وفي الإطار العام للحديث القرآني؛ فإن واقع المسؤولية الجماعية يحدث عندما تشيع أشكال الخلل المختلفة، وتقاعس المجتمع المسلم عن التصدي لمثل هذه الألوان من الخلل، وخصوصًا تلك التي تمس العقيدة، ومصير الأمة بالكامل.
وقد تضافرت جملة من الأحاديث النبوية الصحيحة التي تؤكد هذا المعنى، من ذلك رده "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، على زينب بنت جحش "رضي اللهُ عنها"، عندما قالت: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟". قال: "نعم، إذا كثر الخبث" [متفقٌ عليه].
ولأن القرآن الكريم، هو كلام الله المتين، والذي يصح ويصلح لكل زمان ومكان؛ فإنه عندما نعمل على إسقاط هذا الحديث على الواقع الحالي للأمة؛ فإننا سوف نقف أمام مجموعة من الأمور الجدُّ خطيرة، والتي ينبغي على كل مسلم أن يدركها، لكي يعلم ما عليه من واجبات في هذه اللحظة بالذات، حتى نتقي العقاب الإلهي الذي هو خزيٌ في الدنيا وعذاب مهين في الآخرة.
فيدخل تحت بند هذه الآيات والأحاديث النبوية الشريفة، قضية محاربة الفساد والاستبداد، ويدخل فيها قضية التصدي لخصوم المشروع الحضاري الإسلامي، والذين في سبيل وقفه، ارتكبوا كل ما يمكن من جرائم، بما في ذلك قتل الناس في الشوارع وهدم المنازل على رؤوسهم، وانتهاك أعراضهم، والاستيلاء على أموالهم، وغير ذلك صور الجرائم والموبقات.
العقاب الإلهي لن يطال المؤيدين لقوى الفساد والاستبداد فحسب، وإنما يطال أيضًا حتى من شاركوا بالصمت، وتقاعسوا عن أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن هذه الآيات والأحاديث لتؤكد أن العقاب الإلهي لن يطال المؤيدين لقوى الفساد والاستبداد فحسب، ومن عاونهم على جرائمهم، وفي فسادهم، وإنما يطال أيضًا حتى من شاركوا بالصمت، وتقاعسوا عن أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي مع الإيمان بالله تعالى، ما جعل الأمة هي خير أُمَّةٍ أخرجت للناس: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سُورة "آل عِمران" – من الآية 110].
ولعل هذه الرسالة التي يحملها هذا الحديث، هي أحوج ما تكون الأمة الآن إلى أن تسمعها من قادة الرأي والعلماء والساسة الذين لا يزالون يتمسكون برسالة التغيير والإصلاح، ولا يزالون يؤمنون بالمشروع الإسلامي الحضاري، وبأنه الحل الوحيد لكل مشكلات الأمة، بل المفتاح الوحيد لسعادة البشرية.