من بين جملة الردود الشعبية الحماسية على عملية القدس البطولية التي نفذها مطلع هذا الأسبوع الشهيد مصباح أبو صبيح وقتل فيها مستوطنيْن وأصيب أربعة آخرين بجروح خطيرة، توقفت متأملا عند هتاف ثوري لشباب مقدسيين: "حط السيف قبال السيف.. احنا رجال محمد ضيف".
سألت نفسي: لماذا يهتفون باسمه وهو البعيد المُحاصر في غزة؟ عدا عن أنه الأبكم أمنيا داخل قطاع أصم عن أخباره، فالاحتلال مثلا يعتمد في ملاحقته على صورة قديمة له.
ومحمد الضيف، هو القائد العام لكتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، والمطلوب الأمني الأول للكيان الصهيوني بعد 5 محاولات اغتيال فاشلة، ولقّب بـالضيف لأنه حلّ ضيفا على الضفة الغربية، فساهم في بناء كتائب القسام هناك، قبل أن يستقر في غزة ويغيب عن الأنظار بعدها.
كيف يعلنون الولاء لرجل وجهه غير معروف منذ سنين؟ وهل كان ذلك من عاطفة ثورية في لحظة حماسة أم أنها معاهدة جدّية على الجهاد؟
إن نظرة متفحصة للتوزيع الجغرافي لشهداء الانتفاضة مع مرور عام على اندلاعها، يُظهر أن المدينة المقدسة كان لها نصيب وافر في إيلام العدو عبر عمليات طعن ودعس وإطلاق نار، انطلقت من أروقتها وعلى يد خيرة من شبابها كانوا بنخوة المعتصم، نذكر منهم: ثائر أبو غزالة، وبهاء عليان وغيرهم الكثير.
عبر الإيمان بالفكرة يدرك الإنسان حقائق الأمور التي أعمل فيها عقله، فتكون الأداة أو الآلية في عملية التفكير، وما يلحق بها من طاقات وقوى وملكات عقلية ونفسية
لا يمكن أن يحقق البُعد الجغرافي والسطوة الأمنية الصهيونية التواصل المطلوب لتنظيم الشباب الثائر هناك، أو من تطلق عليهم دولة الاحتلال لقب "الذئاب المنفردة"، لولا أنه الإيمان بالفكرة التي لا يُعرف حدود لجغرافيتها، وهي التي يدرك بها الإنسان حقائق الأمور التي أعمل فيها عقله، فتكون الأداة أو الآلية في عملية التفكير، وما يلحق بها من طاقات وقوى وملكات عقلية ونفسية.
إنها الفكرة التي عملت عليها الحركة الإسلامية ومحمد الضيف، وأراقت دماء المئات من قادتها وأبنائها، من أجل توصيلها، متخطية الحواجز الأمنية، وجدران الفصل، ومحاولات طمسها، وكيّ الوعي، وتغيير الهوية، متصلة برابط العقيدة التي هي أقوى من رابط الأرض.
لقد زرعت المقاومة الفكرة التي أكسبت شباب الانتفاضة والقدس طابع الجندية ليحملوا السلاح الأبيض والناري، ممتثلين لقوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74]، إحياء لمفهوم الجهاد، ودفعا لظلم متجذر، وردّة لا أبا بكر لها.
وفي أوقات كان يضربون أروع مظاهر الإنسانية والرحمة، حين كانوا يمتنعون عن إلحاق الضرر بالأطفال، ونذكر هنا الخلية التي نفذت عملية (إيتمار)، التي أشعلت الانتفاضة ومرت ذكراها الأولى قبل أيام، حيث امتنع الفدائيون عن قتل أربعة أطفال كانوا في المقعد الخلفي من المركبة التي هاجموها.
يقول المفكر العلاّمة محمد قطب "لقد ثبت بالتجربة أنه لا شيء أقوى أثرا من البيئة إلا العقيدة"، وعليه فإن إجراءات الاحتلال لتكييف البيئة في الضفة والقدس بما يشوش على عقيدة الشبان هناك ويصرف أفكارهم عن الجندية وكل ما يتصل بها لم تثمر، بل كانت هذه الإجراءات غذاء للفكرة الطاردة والرافضة لكل أشكال الذل والهوان.
يقفون في دولة الاحتلال اليوم مذهولين عاجزين أمام قوة الفكرة وغراسها في الضفة المحتلة، التي تم استهدافها بالانفتاح والعولمة لتفريغها من أي صور للعسكرية والالتزام الدعوي
يقفون في دولة الاحتلال اليوم مذهولين عاجزين أمام قوة الفكرة وغراسها في الضفة المحتلة، التي تم استهدافها بالانفتاح والعولمة لتفريغها من أي صور للعسكرية والالتزام الدعوي، لكنها التزمت بوصية البنا فانشغلت بالفكرة الصحيحة عن الفكرة الباطلة، وفاجأت الجميع وأثبتت أنها كانت جمرا تحت الرماد، ولا شك أنها تأثرت برياح غزة التي سبقت في مضمار الدعوة والتأطير والتنظيم، مع حالات الاشتباك العنيف مع العدو، التي برهنت فيها المقاومة على صلابة عودها.
أحسب لو أن الشيخ محمد الغزالي أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، على قيد الحياة ورأى فعل شبان الانتفاضة بالضفة والقدس لأشار إليهم في قوله: "إن الجندي المؤمن هو الذي يبحث عن ألف حيلة لمقاومة العدو ودحره".