لعله بعد ما يقرب من مائة عام من ظهور ما يُطلق عليه في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية، ظاهرة الإسلام الحركي وجماعاته، منذ أن بدأ بديع الزمان النورسي في تأسيس مدرسته الفكرية والدعوية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي والتربوي، في عشرينيات القرن الماضي؛ فإنه من بين أكثر المشكلات التي اعترضت طريق الحركات الإسلامية، كطليعة للأمة، هي أزمة التكفير، بعد أن تحولت الجماعة أو الحركة إلى هدف وموئل في حد ذاته، بينما هي في الأصل أداة ظهرت لخدمة الدين والدعوة.
وتستند فتنة التكفير هذه بالأساس إلى تفسيرات معينة لعقيدة الولاء والبراء في الإسلام، وضعت أية علاقة بين المسلم وغير المسلم، في أي مستوىً من مستوياتها، السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي أي حجم من أحجامها، سواء على مستوى الفرد المسلم، أو على مستوى الجماعة المسلمة، والحاكم؛ في إطار تكفير المسلم والجماعة المسلمة.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن أصل المشكلة في استناد الجماعات التكفيرية في تفسيرها لعقيدة الولاء والبراء، يعود إلى أمرَيْن، الأول هو الاستناد إلى تفسيرات آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، من دون النظر في السياقات الأخرى المرتبطة بها في كلام الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وفي القرآن الكريم نفسه، بالرغم من أنه من المبادئ الثابتة المتعارف عليها في علوم القرآن الكريم والحديث النبوي، هو أن كليهما يفسر الآخر، وأن القرآن يفسر نفسه في مواضع أخرى.
أصل المشكلة في استناد الجماعات التكفيرية في تفسيرها لعقيدة الولاء والبراء، يعود إلى الاستناد إلى تفسيرات آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، من دون النظر في السياقات الأخرى المرتبطة بها
الأمر الثاني، هو استناد التفسيرات التي وضعت لعقيدة الولاء والبراء، إلى فترات استثنائية من تاريخ الأمة، مثل التفسيرات التي وضعها الإمام أحمد بن تيمية خلال فترات الغزو المغولي والصليبي لربوع الإمة الإسلامية، عندما والى بعض حكَّام المسلمين هؤلاء الغزاة، إما خيانةً أو ظنًّا منهم أنهم بهذه الموالاة قد يستنقذون بلادهم التي يحكمونها من خطر غزو هذا الطرف أو ذاك.
ومن المعروف في العلوم الشرعية، أن الحكم الاستثنائي لا يجوز إطلاقه، تمامًا – لتقريب الصورة إلى الأذهان، ولله تعالى المثل الأعلى – مثلما أن الأحكام العُرفية التي يتم تطبيقها في أوقات الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية، لا يمكن قبول تطبيقها في الأوقات العادية.
ولكننا، ومن خلال بعض آيات القرآن الكريم، وبالتحديد في سُورتَيْ "النساء" و"الأنفال"؛ يمكن أن نجد الكثير من الأمور الخاطئة في التفسير الذي تستند إليه الجماعات التكفيرية، حيث لا تدخل كل علاقة بين مؤمن وكافر، أو بين جماعة مسلمة وأخرى غير مسلمة في إطار عقيدة الولاء والبراء.
ويخرج من ذلك اعتبارات الضرورة والقهر، مثل مسلمون يخفون إيمانهم، ويقيمون في ديار غير مسلمة، وفي بيئة تناصبهم العداء، ولا يستطيعون الخروج منها؛ حيث ذلك ليس بحاجة إلى نقاش.
وهناك آية قرآنية كريمة توضح وضع هؤلاء على عهد النبي الكريم "صلى اللهُ عليه وسلَّم"، وتقول: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [سُورة "الفتح" – الآية 25]، وهنا تحذير للمسلمين الأوائل بعدم فتح مكة بقوة السلاح، لئلا يتسهدفوا بسلاحهم هؤلاء المسلمين الذين منعهم ضعفهم من الاستجابة لأمر الهجرة مع الرسول محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
أما الآية الأهم أو الأكثر ارتباطًا بهذا الصدد، وهي في سورة "النساء" كذلك، فيقول فيها الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)}.
وهنا يتحدث رب العزة عن إمكانية أن يلوذ مسلمًا بقوم غير مسلمين، أو أن يكون بين ظهراني قومٍ غير مؤمنين، ففي عبارتَيْ: "فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"، و"وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ"، قد يصح أن يكون هناك مؤمنين مقيمين في وسط أقوام غير مسلمة، حتى لو كانوا في حالة عداء مع الجماعة أو الدولة الإسلامية، مع نفي صياغة العبارة الأولى لفرضية أن يكون "القوم العدو" فيها مسلمين كذلك؛ حيث سياق الصياغة يقول بأن المؤمن القتيل قد يكون مقيمًا بين ظهراني جماعةٍ عدوٍّ لجماعة المسلمين، من غير المسلمين.
وفي سُورة "الأنفال"، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)}.
والآية هنا شديدة الوضوح في التعبير عن حالات إقامة "الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ" أنه "مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ"، وكلمة الولاية واضحة تمامًا؛ أنه ليس للدولة الإسلامية المعبِّرة عن الدين وتدافع عنه، وعن حياضه، وعن جماعة المسلمين، أية ولاية على مؤمنين مقيمين في ديار أخرى، وأن هذه الإقامة في ديار غير مسلمة، لا تنزع صفة الإيمان عن المسلم، ولا تكفِّره.
ثم، وفي عبارة: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاق} الحديث واضح تمامًا؛ أنه حتى في حالة النصرة في الدين – وهي أمرٌ خطير وشديد الأهمية في عقيدة المسلم – لا يجوز في حالة التعامل مع مسلمين مقيمين في ديار غير مسلمة، بينها وبين ديار الإيمان ميثاق، حتى لو انتهكت سلطات هذا البلد، حقوق المسلم الدينية نفسها.
والقرآن الكريم، كما تعلمنا، يفسر نفسه، وهناك ارتباط وثيق للغاية بين آياته، على الأقل في الآيات التي تتناول القضية الواحدة، فيما اعتمدت غالبية الأدبيات التي تناولت هذه القضية، قضية "عقيدة الولاء والبراء"، على نصوص مجتزأة من سياقها القرآني العام كما تقدَّم.
الأقليات الإسلامية وضرورات الحالة
ولعل أهم تطبيقات هذه القضية في هذه المرحلة، بجانب العلاقات الملتهبة في الوقت الراهن بين جماعات الإسلام السياسي، هو واقع الأقليات المسلمة في الغرب في الوقت الراهن.
ففي ظل التوترات الراهنة بين بعض الجماعات الجهادية المسلحة التي تتبنى التكفير منهجًا لها، مثل تنظيم الدولة "داعش" وبعض الحكومات الغربية، وتعدي بعض الحكومات الغربية، ولاسيما الحكومة الفرنسية، على حقوق المسلمين، وتعرض المسلمين في دول غربية عديدة إلى حملات عنصرية؛ سعت بعض الأوساط الإسلامية إلى محاولة تحسين أوضاع المسلمين، والتصدي إلى الصورة السلبية التي اتصلت بهم لدى شرائح من الرأي العام الأوروبي والأمريكي.
وكان من بين نتائج ذلك، أن أعلنت القيادات الإسلامية عن إدانتها لأحداث العنف التي وقعت في أكثر من دولة أوروبية، مثلما وقع في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وبدأت هذه القيادات في توظيف المنابر الإعلامية والدعوية التابعة لها، في محاولة التصدي للفكر المتطرف والتكفيري، والتيارات التي تسعى إلى غرسه في صفوف المهاجرين المسلمين في الغرب.
وبطبيعة الحال؛ فقد قادت هذه الجهود إلى محاصرة التيارات التكفيرية، وضبط وترحيل عدد من العناصر التي لم تكن مؤتمنة على المنابر المسجدية والدعوية التي كانت تحت يدها.
تم تأويل ذلك من جانب أنصار تنظيم الدولة، ومن نحا نحوهم من معتنقي الفكر التكفيري على أنه يدخل في إطار عقيدة الولاء والبراء.
صارت القيادات الإسلامية في البلدان الغربية بين مطرقة الإسلاموفوبيا وسندان التكفيريين، والضحية بطبيعة الحال، هم المسلمون والدعوة الإسلامية التي تأذَّت جهودهم في مجال العمل الدعوي والإعلامي لتصحيح الصورة
وبالتالي؛ صارت القيادات الإسلامية في البلدان الغربية بين مطرقة الإسلاموفوبيا وسندان التكفيريين، والضحية بطبيعة الحال، هم المسلمون والدعوة الإسلامية التي تأذَّت جهودهم في مجال العمل الدعوي والإعلامي لتصحيح الصورة، ونشر صحيح الدين، في الوقت الذي أصبح فيه الإسلام هو أسرع الديانات نموًّا في أوروبا والعالم.
ومِن ثَمَّ؛ فإن هناك مراجعات ضرورية مطلوبة في هذا الأمر من جانب علماء أهل السُّنَّة والجماعة للتصدي إلى فتنة التكفير التي هي أسوأ ما عرفه المسلمون عبر تاريخهم، وصارت سببًا في تعطيل صيرورات الدعوة، والمشروع الإسلامي الحضاري برمته، ولكن الله تعالى متمٌّ نوره ولو كره الكافرون.