"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية”، كانت تلك كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم لوصف حال المسلمين بعد الهجرة ”جهاد ونية"، جهاد لتثبيت أركان الدولة، ونية صالحة لبناء هذه الدولة والتضحية من أجلها؛ لرفع رايتها ونشر رسالتها في العالمين.
لم تكن رسالة الإسلام محدودة الزمان والمكان، لذا عمل قائد الدعوة والدولة بعد الهجرة على توسيع حدودها ومخاطبة الزعماء والملوك؛ للانضمام تحت لوائها. وانطلقت الفتوحات الإسلامية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لتصل إلى ذروتها في عهد الأمويين والعباسيين إلى الصين شرقا والأندلس غربا، توطدت فيها أركان الدولة الإسلامية التي تمثل المسلمين وتدافع عن مصالحهم في جميع أنحاء الأرض.
كانت الدولة الإسلامية تتمثل أحكام القرآن غالبا في تشريعاتها، وتتوخى العدل في قوانينها وأحكامها في تفاوت واضح بين حاكم وآخر، فمن عمر بن عبد العزيز الراشدي الخامس إلى حكام العصر العباسي الثاني بون شاسع في تمثل العدل وتطبيقه.
انحرفت بوصلة الدولة الإسلامية ابتداء باعتماد الوراثة أسلوبا للحكم بعد الخلفاء الراشدين، وزاد الأمر سوءا الصراع على السلطة بين الأمراء وأبنائهم وإخوانهم، ثم بين الأمويين والعباسيين ثم بين العرب والموالي، وهكذا فقدت الدولة الإسلامية العادلة بريقها وأصبحت نهبا لأطماع أعدائها حتى جاء العثمانيون وسقطت الخلافة عام 1928على يد الكمالية في تركيا وتناوب الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي على بلاد المسلمين، فغرقت في الجهل والتخلف والتقليد الأعمى حتى كانت الثورات الوطنية في كل بلد على مستعمريه وخرج المستعمر بعد أن استلم زمام الأمور في بلاد المسلمين حكاما من بني جلدتهم، لكنهم في الغالب تتلمذوا على يد المستعمر نفسه ودرسوا في جامعاته وانبهروا بثقافته فظنوا أن التطور والحضارة يكونان بتقليد الغرب في كل شيء حتى في الثقافة والفكر والعادات والتقاليد!
ثم كانت المصيبة الاكبر في حكم هؤلاء أنه قام على الفردية والدكتاتورية، لا على المشاركة أو الديمقراطية الغربية التي يتغنون بتقاليدها وثقافتها.
فقدت الأمة وحدتها بسقوط الخلافة، فقدت دولتها الواحدة صاحبة العزة والمنعة، صحيح أنها لم تكن تتحلى بالعدل الحقيقي في كثير من مراحلها، لكنها كانت على الأقل تؤمن للمسلمين مكانة محترمة بين الأمم
لم يخرج الاستعمار من بلاد المسلمين حتى أوجد قاعدة من الجهل والتخلف وطبقة حاكمة تأتمر بأمره، وفي حالة فلسطين سلمها يدا بيد لأعداء الأمة من اليهود الذين وعدتهم بريطانيا بالوطن القومي لهم في فلسطين وقد كان.
فقدت الأمة وحدتها بسقوط الخلافة، فقدت دولتها الواحدة صاحبة العزة والمنعة، صحيح أنها لم تكن تتحلى بالعدل الحقيقي في كثير من مراحلها، لكنها كانت على الأقل تؤمن للمسلمين مكانة محترمة بين الأمم، دولة مهيبة الجانب يصعب تجاوز قوتها وتأثيرها بين الأمم.
اليوم بعد خمسة عشر قرناً من الهجرة التي كانت بداية تأسيس الدولة الإسلامية، ترنو الأمة اليوم إلى تلك الدولة الإسلامية الواحدة التي تجمع على الأقل المنطقة العربية بكل ما تتمتع به من طاقات وكوادر وثروات؛ لتشكل حضارة جديدة تعلم الناس العدل والمساواة، وتتمتع بالأمن والأمان والاستقرار في هذا الزمان الذي هدمت فيه معظم حواضر دولة الإسلام القديمة ”بغداد-دمشق"، وحوصر المسلمون في بلدانهم بالظلم الداخلي من جهة، والعدوان الخارجي من جهة أخرى، واستأسد البغاة من أعداء الأمة عليها خاصة اليهود حيث تتحكم دولتهم المعتدية والمحتلة لفلسطين بالأمة جميعا من خلال سيطرتهم على اقتصاد وإعلام وسياسة الدول الغربية المتحكمة بالعالم الإسلامي.
حاضر بئيس تعيشه شعوب المنطقة التي مزقتها الخلافات الطائفية والسياسية، وتكاد تفقد الأمل في المستقبل فهل انتهى حلم الدولة الإسلامية؟
نبل الهدف يستلزم نبل الوسيلة، وما دام الهدف على منهاج النبوة فينبغي أن تكون الوسيلة كذلك
في ما نعلمه من السنة النبوية أن آخر هذه الأمة كأولها خلافة على منهاج النبوة، وبالتأكيد ليست خلافة داعش وإنما خلافة على منهاج النبوة القائم على العدل والمساواة والدعوة إلى الخير. ولعل رسالتنا في هذا المقال أن الهجرة قد انتهت لكن الجهاد من أجل الدولة الإسلامية الحقة لم ينته. فالكل مسؤول أن يبذل الجهد لتحقيق هذا الهدف بجهد لا ينبغي أن يكون بلا ضوابط ولا عنوان، فنبل الهدف يستلزم نبل الوسيلة، وما دام الهدف على منهاج النبوة فينبغي أن تكون الوسيلة كذلك.
الحركات الإسلامية اليوم تعيش تحديا وجوديا في اجتراح طريق وسط للوصول إلى هذا الهدف، في ظل استهدافها بشكل مباشر من قوى الطغيان والعمالة في الأمة ومن خارجها؛ لمنع تحقيق حلم الدولة الإسلامية العادلة التي ستكون كاشفة فاضحة عند مقارنتها بالواقع الذي تحياه دول المسلمين، بل الدول الغربية كذلك من ظلم أو ازدواجية في المواقف.
إنها مطالبة بإقناع الناس أن ماتدعوا إليه يختلف عما هو قائم تحت مسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام، يختلف اختلافا كليا في الهدف والوسيلة، وإن كان يشترك معها في الاسم. ولعله يكون أقرب في وصفه وصفته إلى الدولة المدنية الحديثة خاصة في الحقوق والواجبات، لكنه يختلف عنه في طبيعة التشريعات ومصدر اشتقاقها.
هذه لمحات بسيطة إلى طبيعة الدولة الإسلامية الحديثة وإن كانت تستحق أبعد من هذه الإشارة بكثير، وهي مسؤولية المفكرين والعلماء من المسلمين المهتمين بهذا الأمر والذي يجب أن يقلقنا جميعا فمن لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم.