جلست من زاوية أنظر لمن يعمرون هذه الأرض أو يعيشون فيها، ومن عادتي مخالطة كافة الأعمار فأجد في بستان صحبتي من الورود ما تختلف أعماره وألوانه على اختلاف ثقافاتهم وميولهم وإن كان في ذلك إيجابية تذكر ففيه من السلبية ما لا ينكر، إذ تجد نفسك تحمل آلامهم وأحلامهم بل وفي فترة ما تنتقل معهم من ربيع العمر إلى خريفه.
وجدت نفسي في الآونة الأخيرة تستوقفني كثير من التفاصيل، أنظر لتعثر خطوات بعضهم وثبات خطوات البعض الآخر في رتابتها المملة حتى طريقة حمل السيجارة لأحدهم وطريقة نفثه عبرها كثيراً ما كانت تثير انتباهي، كنت أنغمس في آمالهم وآلامهم حتى إحباطهم لدرجة أن أتنفسها إضافة لظروف المرء الخاصة التي يمر بها.
تفكرت ما الذي يميز بعضنا عن بعض؟! ما الفارق الذي يزج بنا للاختلاف الملحوظ رغم تشابه الظروف من شخص لآخر؟ ! بل حتى البيئات التي يترعرعون في وسطها، تجد البعض من أول عثرة تواجهه تكون خطواته فريسة سهلة للتعثر وأهدافه للتيه، تعلوه سحابة من الكآبة والضياع يفرغها بعادة سيئة كالتدخين مثلاً لتمتد لأشكال أخرى من الانحرافات التي باتت ترهق مجتمعاتنا، هذا إن لم يفكر بعضهم بوضع حد لحياته أو لحياة غيره!
البعض تجده يواجه جبهات الحياة بعنفوانها وشدة ضرباتها بنبضات خفاقة في قلبه وخطوات ثابتة مرسومة بعناية لا تزيغ
والبعض يزج بنفسه في قبر الحياة منتظراً بفارغ من الصبر الحفرة الأخيرة من محطات هذه الدنيا، والبعض تجده يواجه جبهات الحياة بعنفوانها وشدة ضرباتها بنبضات خفاقة في قلبه وخطوات ثابتة مرسومة بعناية لا تزيغ، مقبلاً على الحياة غير مدبر، يشرع صدره مستقبلا أقدارها ويده ممدودة تساند عضد أخيه وكأنها أشرعة لمركب يصر على السير رغم العواصف الهوجاء، ورسوخ خطواته لا يمنعه من الانحناء لرفع أولئك الذين تساقطوا على الدرب؛ لعله ينجح في إعادة رمق الحياة لأرواحهم أو يسكب في قلوبهم من نبضه فينعشها من جديد، كل هذا رأيته في حركات وسكنات العابرين والماضين واللاحقين.
ما الذي يفرقنا بهذا الشكل ولهذه الدرجة؟! لم أجد إلا تفسيراً واحداً بعيداً عن الشجاعة ورباطة الجأش وقوة التحمل والصبر على الشدائد؛ إنه الهدف والغاية المرسومة في نهاية الدرب والتي تتعلق به الأبصار والأفكار والأفهام، فالذين يرقبون أهدافاً وغايات من حياتهم وليست آنية أو فانية بل ممتدة وخالدة إلى ما بعد هذه الحياة يعيشون بثبات، يقبلون بصدورهم على الحياة وكأنّ قلوبهم مراكب تحملهم وأرواحهم أشرعة تجدف بهم غير آبهين ولا خائفين يتنفسون نسائم الحياة بملء قلوبهم وأرواحهم؛ لأنهم يدركون بداية أنهم ما خلقوا عبثاً وإنما لهدف سام وغاية نبيلة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات:56] وأن الحياة جبلت على كدر:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [سورة البلد:4] فوجودنا ليس بهدف الدعة والراحة بل للعمل والسعي وهذا يتطلب عناء ومشقة وابتلاء{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت:2].
من تعثرت خطاهم لدرجة فقدت بوصلتها فتخبطت في بحار من التيه والضياع والانحراف، فهذا نتيجة عيشهم بلا أهداف ترسم لهم وقع خطواتهم أو تضبط لهم نبض قلوبهم
وأما من تعثرت خطاهم لدرجة فقدت بوصلتها فتخبطت في بحار من التيه والضياع والانحراف فهذا نتيجة عيشهم بلا أهداف ترسم لهم وقع خطواتهم أو تضبط لهم نبض قلوبهم، تجدهم تنتهي مسراتهم بانقضاء لذاتهم وشهواتهم، تهيم أرواحهم وتضطرب نبضات قلوبهم تحسبهم أحياء ولكن الوصف الأعمق لحالهم قوله تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [سورة الفرقان:44]، وقد ضلّ سعيهم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [سورة الكهف:104].
لا تفقد بوصلتك حتى لا يضل سعيك! اضبطها على الهدف والغاية التي خلقت من أجلها، اربط الحياة الدنيا بآمالها وأحلامها وآلامها بتلك الحياة الآخرة والتي هي دار البقاء
وأخيراً، حتى لا يضل سعيك.. لا تفقد بوصلتك! اضبطها على الهدف والغاية التي خلقت من أجلها، اربط الحياة الدنيا بآمالها وأحلامها وآلامها بتلك الحياة الآخرة والتي هي دار البقاء، والذي يعطي الإنسان جرعة أمل وقدرة على العمل ومواصلة المسير ومواجهة الحياة بكل حالاتها علمه بحقيقة وغاية وجوده.
وأنّ الأولى ممر للآخرة والتي من أجلها يتجاوز الإنسان كل الآلام في سبيل تحقيق أحلامه وآلامه في حياة لا فناء فيها ولا ضنك ولا كدر، لهذا حرص الإسلام الحنيف بكتابه وسنة نبيّه الكريم على إعطاء صورة واضحة حيّة عن اليوم الآخر حتى تبقى تفاصيل تلك الآخرة ماثلة بتفاصيلها أمام العاملين، فلا يتسرب لهم أدنى وهن أو عجز، فيهون في فهم ونظر العابرين كل ألم ومشقة في سبيل دار الخلود والبقاء ولمثل ذلك فليعمل العاملون.