يزخر عالمنا الإسلامي بكوكبة من العلماء والمفكرين الذين كان لهم الأثر البالغ في ترشيد وتوجيه أبناء الأمَّة نحو التغيير والنهضة والإصلاح، من خلال أفكارهم التي صاغوها، ورصيدهم العلمي وتجربتهم الثريّة التي خلّفوها بعد وفاتهم، لتصبح مَعيناً ينهل منه الشباب المسلم المتوثب لاستئناف الحضارة الإسلامية.
ومن الكتب التي رصدت سيرة ومسيرة ثلة من هؤلاء الذين وضعوا بصمتهم الإيجابية في تاريخ أمتنا الإسلامية في القرن العشرين، كتاب (خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين)، للدكتور محمد بن المختار الشنقيطي، حيث وقع اختيار الكاتب على خمسة أعلام؛ هم: محمد إقبال من الهند، ومحمد عبد الله درّاز من مصر، ومالك بن نبي من الجزائر، وإسماعيل الفاروقي من فلسطين، وعلي عزّت بيغوفيتش من البوسنة والهرسك.
مع الكتاب:
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: "اخترت هؤلاء الخمسة من بين علماء الإسلام ومفكريه في القرن العشرين بناء على معايير ثلاثة، هي: الجمع بين ثقافتيْ الشرق والغرب، وبين الفهم الشرعي والموقف الشرعي، وبين عمق الفكرة وإشراق الرّوح".
وحسب المؤلف، فإنَّ الكتاب يهدف إلى تقديم مقالات تعين القارئ الكريم على الإلمام السريع بحياة هؤلاء الأكابر، ثم ببعض الأفكار الكبرى التي صاغوها، لعل ذلك يستحثه على البحث بنفسه عن المزيد من نفائس الأفكار التي خلفوها لنا في كتبهم، والعبرة التي تنبض بها سير حياتهم.
الشخصية الأولى: محمَّد إقبال.. أعجميٌّ ذو لحْنٍ حجازيٍّ.
ولد محمد إقبال في مدينة "سيالكوت" بمقاطعة البنجاب الهندية عام 1877، وتوفي يوم 19 نيسان/ إبريل 1938م.
يقول الكاتب: "كان إقبال مثالاً للعالم المتبحر ذي العقل الكبير، فقد تعلم سبع لغات، وأتقن عدة تخصصات. على أن روح إقبال ومرآة فكره الصافية تتجلى في شعره أكثر من نثره، فقد آثر لغة القلب على لغة العقل ـرغم تمرُّسه بالصنعتين ـ فاختار الشعر مطية لأفكاره، لأن الشعر دفقات من الوجدان وومضات من العبقرية تقتحم القلوب دون استئذان، بينما يدخل الفكر إلى العقول ببرودة، وعبر مسار متعرج من المقدمات المنطقية الجافة. وقد قال إقبال بحق: "إنَّ جفاف المنطق لا يقَوى على مقارعة نضرة الشعر".
ويضيف: "آمن إقبال بأنَّ أساس الالتزام الإسلامي هو المحبَّة القلبية الوالهة، لا المعرفة الذهنية الباردة. فالحبّ أعمق أثراً من العلم، والقلب أقوى سلطاناً من العقل، وما يحتاجه المسلم للوصول إلى مقام "عزّ العبودية لله" أكثر بكثير من مجرّد المعرفة الذهنية بالإسلام، أو الإلمام التاريخي بأيام المسلمين. إنَّه يحتاج إلى تمثل تعاليم الإسلام بقلبه، حقائق من لحم ودم، لا قوالب ذهنية مجرّدة. لم يكن إقبال في يوم من الأيام حيادياً بين العقل والقلب، بل مال إلى جانب القلب دائماً. وقد عبَّر عن ذلك واصفا تجربته الشخصية في الحياة، فقال:
مضى إقبال هَوْنًـا في *** دروب الفكر واجتازاً
فلما جاء درب الحـبِّ *** مال القلـب وانحــازاً
الشخصية الثانية: محمد عبد الله دراز.. عاشق القرآن الكريم.
ولد العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز عام 1894م، بمحافظة (كفر الشيخ) المصرية، وتوفي في مدينة لاهور الباكستانية عام 1958م.
يقول الكاتب: "كانت أهم سمة من سمات شخصية دراز، والمنبع الذي فاضت منه كل مآثره العلمية والعملية هي الوَلَه بالقرآن الكريم. كان رجل القرآن بحق، فقد ملكت عليه محبة القرآن لبه، وشغفت قلبه، فكان شغله الشاغل، لا يكاد يُرى إلا وهو منكب على قراءته وتدبُّره، أو قائم يصلي به. وقد انصب اهتمامه العلمي على القرآن حصرًا، فلا يكاد يوجد له عمل علمي إلاّ والقرآن محوره ولبابه. ولا يستطيع دراز كفكفة عشقه لكتاب الله وتعلقه القلبي به، فهو يتتبَّع ألفاظ القرآن تتبع الوالِهِ، ويصفها بحق بأنها "حبات درية".
ويضيف: "ثابر دراز على قراءة ستة أجزاء من القرآن كل يوم دون كلل أو ملل. وكان معظِّمًا للقرآن، يسجد سجود التلاوة أثناء محاضراته في التفسير، ويطلب من طلابه التوضؤ قبل بداية المحاضرة استعدادًا لذلك. وقد كتب عنه رفيق رحلته إلى المؤتمر الإسلامي بلاهور، الشيخ محمد أبو زهرة: "كان يؤمُّنا في صلاة العشاء، ثمَّ يأوي كلّ منّا إلى فراشه، ويأوي هو إلى صلاته وقرآنه. وكنت لا تراه إلاّ قارئاً للقرآن أو مصلياً".
الشخصية الثالثة: مالك بن نبي.. فيلسوف الحضارة الإسلامية.
ولد المفكر الإسلامي مالك بن نبي في مدينة قسنطينة الجزائرية عام 1905م، وتوفي يوم 31 تشرين أول/ أكتوبر 1973م.
يقول الكاتب: "لقد قدم مالك بن نبي إسهامات جليلة في تجديد الفكر الإسلامي المعاصر، وتنقية المنبع الفكري الذي استمدت منه حركة النهضة منذ ختام القرن التاسع عشر. وأصبحت بعض المصطلحات التي نحتها مالك على كل لسان. ومن ذا الذي لم يسمع بمقولاته حول العلاقة بين "الاستعمار" و"القابلية للاستعمار"؟ والصلة بين "الأفكار الميتة" و"الأفكار المميتة"؟ ومراحل تطور الحضارة الإسلامية من "طور الروح/ الصعود"، إلى "طور العقل/ الامتداد"، إلى "طور الغريزة/ الانحطاط"؟".
ويضيف: "وقد توصل مالك بن نبي إلى أن أزمة المجتمع المسلم هي أزمة منهجية عملية في الأساس، وأن التحدي الرئيس الذي يواجه المسلمين هو تحدي النهضة. وصاغ نظريته في التغيير الاجتماعي على أساس مبدأ الفاعلية".
الشخصية الرّابعة: إسماعيل الفاروقي.. حامل همِّ الشرق في الغرب.
ولد الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي في مدينة يافا الفلسطينية عام 1921م، واستشهد عام 1986م.
يقول الكاتب: "وفي مجال التعريف بالظاهرة الصهيونية، كتب الفاروقي ثلاثة كتب هي: "الإسلام ومشكلة إسرائيل"، و"أصول الصهيونية في الدين اليهودي"، و"الملل المعاصرة في الدين اليهودي". وكان طرحه متميّزاً بالعمق والرحابة، وإن لم تخل نبرته من مرارة الظلم. كان الفاروقي متضلعاً بتاريخ الديانة اليهودية وبتطور الحضارة الغربية، وقد وضع الصهيونية في ذلك السياق التاريخي، وتوصّل إلى أنَّ المسلمين يسيئون فهم أهم عدو لهم اليوم وهو "إسرائيل"، بالنظر إليها على أنَّها مجرّد ظاهرة استعمارية غربية أو مجرّد تكرار للحروب الصليبية، وهي كل ذلك وأكثر بكثير".
الشخصية الخامسة: علي عزت بيغوفيتش.. إسلامي بأفق إنساني.
ولد علي عزت بيغوفيتش عام 1925م، في بلدة (بوسانا كروبا) في شمال غرب البوسنة، وتوفي عام 2003م.
يقول الكاتب: "كان علي عزت بيغوفيتش إسلامياً في العمق، لكن بأفق إنساني رحب. ويحتار المطالع لتراثه من سعة اطلاعه على الثقافة الإنسانية. فهو ضليع في الفلسفة، والأديان، والقانون، والتاريخ، والأدب، والرسم. وتدل هوامش كتبه وثراء استشهاداته وملاحظاته على اطلاع مذهل على ثمرات الفكر الإنساني في الشرق والغرب، وعقل منهجي ناقد لما قرأ، متمثل له في ذاته. وكان يرى أنَّ ركام المعلومات من غير هضم عبء على حامله، وليس من المناسب تسميته معرفة أصلاً".

مع المؤلف:
هو محمد بن المختار الشنقيطي
حاصل على إجازة في القرآن الكريم. وبكالوريوس في الفقه والأصول، وبكالوريوس في الترجمة (العربية/ الفرنسية/ الإنجليزية).
نال درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة كولومبيا الجنوبية بولاية ألاباما، كما حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في تاريخ الأديان من جامعة تكساس.
يعمل أستاذاً مشاركاً لتاريخ الأديان بكلية قطر للدراسات الإسلامية، وهو رئيس وحدة الأخلاق السياسية بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق في الدوحة بدولة قطر.
من كتبه باللغة العربية:
- الحركة الإسلامية في السودان.
- الخلافات السياسية بين الصحابة.
- تراكم الهويات وتزاحمها في الفضاء العربي.
وباللغة الإنجليزية:
- أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية.
- صلاح الدين الأيوبي في الذاكرة السنية والشيعية (فصل من كتاب "تذكُّر الحروب الصليبية" المنشور بمطابع جامعة جون هابكنز في واشنطن).
- تُرجمتْ أغلب أعماله إلى اللغة التركية، وطبعتها دار "معنى" في إسطنبول بين عامي 2006 و2012م.
بطاقة الكتاب:
العنوان: خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين.
المؤلف: د. محمد بن المختار الشنقيطي.
دار النشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
عدد الصفحات: 95 صفحة.