كرم الله تعالى وعطاياه جليلة أعظم من أن تحصى، وتتجلى رحمته في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكان النور الذي سطع على الدنيا، فبدد ظلماتها، وكان رحمة كما الغيث يروي الظماء، ويكسي العراة، ويحيي الموات من قلوب البشر التائهة في سراديب الجاهلية المظلمة، فكان حقاً الرحمة المهداة للعالمين.
أنظر من حولي إلى نظريات ودعوات بل أنظمة يجتهد أصحابها لإلزام الناس بها وإخراجها على الملأ، فيجدها الناظر إن صلحت لقوم لا تصلح لآخرين، وإن سادت في زمان أدبرت وأفلتت في الذي يليه، فلا تتعدى أن تخترق أفق مسقط رأسها أو ما يدور في فلكها. لكن أن يأتي هذا الدين ويحافظ على استمراريته وانتشاره فينفذ لقلوب العباد ويسود في البلاد، فلا يحده زمان ولا مكان ولا يقتصر على فئة دون أخرى، يجعل المتدبر يتساءل ما الذي حافظ على استمراريته؟ وأي باعث يقف من خلفه ليبسط جناحيه على هذه المساحات الشاسعة رغم شدة الهجمات التي تشن عليه، وارتفاع الأصوات التي تحاربه بمختلف الأجناس؟ حيث يظهر من أبناء جلدتنا بين الفينة والأخرى من ترتفع أصواتهم والتي ما هي إلا أبواق أو صدى لدعوات هنا وهناك، بأنّ ما صلح لما مضى من زمان ومكان وبشر لا يصلح لزماننا بحاضرنا ومستقبلنا، فأرادوا بذلك تحجيم رسالته وتحديد دعوته لتكون كسائر الشرائع الأخرى محدودة بزمان وفئة مخصوصة، تنتهي بانتهاء وقتها ونبيّها.
الباعث لاستمرار هذا الدين الحنيف إنما هي عالميته التي هي من أهم ما اتصف وامتاز به، لأنه ما أُرسل إلا ليكون عالمي الدعوة يتخطى محدودية الزمان والمكان والفئة المخاطبة
فيأتي الرد على هذه الدعاوي والأصوات، أن الباعث لاستمرار هذا الدين الحنيف إنما هي عالميته التي هي من أهم ما اتصف وامتاز به، لأنه ما أُرسل إلا ليكون عالمي الدعوة يتخطى محدودية الزمان والمكان والفئة المخاطبة، وهذا الرد إنما هو بمثابة شهادات شهد بها أصحابها على اختلاف أديانهم وأجناسهم. والرابط المشترك بينهم أنهم لا يدينون بالإسلام ولا يلتزمون شرائعه، ونذكر بعضاً منها على كثرتها، إذ الأقوال تفوق أسطر المقال.
وممن شهد بعالمية الدعوة توماس أرنولد(1) مستدلاً على ذلك ببعض من آيات الذكر الحكيم ومنها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: [وما أرسلناك إلا كافة للناس]. [سورة سبأ: آية28ٍ]. وقوله تعالى: [وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين]. [سورة الأنبياء: آية 107]، ويتابع شهادته مستدلاً على ذلك بأنّ الخطاب الرباني في القرآن الكريم يتضح توجهه في مخاطبة الناس كافة؛ من خلال الآيات المبدوءة بعبارة (يا أيها الناس) فهذا دلالة واضحة على عالمية الدعوة وعموم الرسالة(2).
وشهادة أخرى يشهدها عالم آخر مستدلاً بدخول أجناس مختلفة في الإسلام من غير العرب على أنّ الإسلام عالمي لم يقتصر في خطابه على العرب وحدهم، وهي النتيجة التي أقر بها مونتغمري وات(3) إذ يقول: "إنّ قبول أناس من مختلف الأجناس للإسلام ديناً لهم يبيّن أنّ رؤية الإسلام على درجة عالية من العالمية"(4).
فعالمية رسالة الإسلام لم يتوقف عندها الغربيون فحسب، بل أقر بها وتحدث عنها أبناء الشرق من غير المسلمين؛ فكان هؤلاء ممن أوتوا علماً من الكتاب المقدس جاءت شهاداتهم موازية لشهادات أبناء الغرب فبقاؤهم على نصرانيتهم لم يثنهم عن إنصاف الإسلام؛ إذ يقول في ذلك نصري سلهب(5): "الإسلام دين الأزمنة جميعها، وقد أُعدّ لجميع الشعوب. فهو ليس للمسلمين فحسب، ولا لعرب الجزيرة الذين عايشوا النبي وعاصروه فحسب، وليس النبي نفسه نبي العرب والمسلمين فحسب، بل هو نبي كل مؤمن بالله واليوم الآخر والنبيين والكتب المنزلة"(6).
إنها شهادة حق تنضم لشهادات كثيرة يختلف أصحابها في المنهج والاتجاه بل البيئة والزمان والمكان، يقر بها أعلام الفكر وأصحاب العقول التي ما منعها التعصب واختلاف الديانة عن قول كلمة حق يقول بها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويقر بتعدد الأنبياء والكتب المنزلة.
إنّ تناول هذه الشهادات من قبل أبناء الإسلام إنما يعيد لهم ثقتهم في أنفسهم ورسالتهم الإسلامية، فهم أصحاب رسالة سماوية أرسلها الله للكافة لإخراج الناس كل الناس من الظلمات إلى النور، كما أن تناول هذه الشهادات من أبناء الغرب _وغيرها كثير جاء في أمهات الكتب لهؤلاء العلماء الغربيين_ بأسلوب علمي بعيد عن أي تعصب يدفع بهم لدراسة الإسلام كرسالة سماوية دراسة واعية بعيداً عن إطلاق الأحكام جزافاً ومسبقاً دون أدلة وإنما اتهام وإثم وبهتان.
________________________
الهوامش:
(1) مستشرق بريطاني شهير تعلم اللغة العربية عمل في الهند وهناك ألف كتابه "الدعوة إلى الإسلام" وعمل أستاذا في الجامعات المصرية.
(2) أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص47. بتصرف.
(3) وليام مونتغمري وات مستشرق إسكتلندي، عمل أستاذاً للعربية والدراسات الإسلامية بجامعة أدنبره، كان في مطلع حياته قسّاً بالكنيسة الأسكوتلندية، من مؤلفاته: "موجز تاريخ الإسلام" و"محمد دين ودولة".
(4) وات، مونتغمري: ما هو الإسلام؟، ص123. مرجع سابق.
(5) نصري سلهب مسيحي من لبنان، يتميز بنظرته الموضوعية وتحريه للحقيقة المجردة، كما عرف بنشاطه الدؤوب لتحقيق التعايش السلمي بين الإسلام والمسيحية في لبنان، من مؤلفاته: "لقاء المسيحية والإسلام" و"في خطى الحبيب".
(6) سلهب، نصري: لقاء المسيحية والإسلام، ص403، دار الكتاب العربي، بيروت_لبنان.