قبل أيام؛ مرَّت علينا ذكرى أحد أيام الأمة السوداء، وهي الذكرى التاسعة والتسعون لوعد بفور، واليوم تمر ذكرى يوم آخر، ربما في تقدير الكثيرين هو أسوأ وأكثر سوادًا من وعد بلفور، وهي الذكرى التاسعة والثلاثين لزيارة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات إلى الكيان الصهيوني، والتي كانت مفتتحاً لأحد أسوأ مشاهد التاريخ العربي والإسلامي الحديث.
وحتى عبر تاريخها الضارب في القِدَم؛ لم تعرف الأمة أيامًا كثيرة مثل يوم زيارة السادات إلى الكيان الصهيوني، باستثناء ربما تلك الفترة التاريخية السوداء التي تحالف فيها بعض أمراء المناطق وملوك الطوائف، مع خصوم الأمة الصليبيين في بلاد الشام، في القرنَيْن العاشر والحادي عشر الميلاديَّيْن، حتى سلموا فلسطين والقدس لأعداء الأمة، وفي القرون الوسطى المظلمة من التاريخ الأوروبي، حتى تم تسليم الأندلس إلى أوروبا لقمة سائغة في جريمة هي الأبشع في التاريخ الإسلامي قاطبًا.
ولئن كنا نقول إن وعد بلفور قد أسس لظهور دولة الكيان الصهيوني غير الشرعية على أرض فلسطين، ولئن كنا نقول إن حرب يونيو 1967م، قد كرَّست الاحتلال اليهودي لأراضٍ إسلامية بمساعدة قوى الاستعمار والاستكبار العالمي؛ فإنه تبقى لهذه الحوادث فيما يخص قضية فلسطين، أنها خطوات لا يقرها قانون ولا ضمير ولا أي عُرف سياسي، وتبقى لا مشروعيتها واضحة جلية للعيان.
فحتى بريطانيا، التي كانت أهم طرف دولي ساعد على اغتصاب فلسطين من أصحابها؛ تفكر جديًّا الآن في عقد مؤتمر دولي تعتذر فيه عن وعد بلفور، فيما القانون الدولي لا يعترف إطلاقًا لا بالاحتلال الصهيوني لأراضي الـ67، ولا بشرعية المستوطنات اليهودية المقامة فوقها، وهو ما وصل إلى الضمير العالمي في السنوات الأخيرة، وبدأ يتفاعل معه من خلال المقاطعة السياسية والاقتصادية والأكاديمية.
مهدت زيارة السادات لدولة الاحتلال إلى أخطر النتائج التي لم يمكن لوعد بلفور ذاته بعد مائة عام من صدوره، من تحقيقها، وهي إضفاء شرعية الوجود اليهودي على أرض فلسطين بالكامل
وبينما ذلك؛ يبرز عميق تأثير خطوة السادات بزيارة دولة الاحتلال؛ حيث مهدت هذه الخطوة إلى أخطر النتائج التي لم يمكن لوعد بلفور ذاته بعد مائة عام من صدوره، من تحقيقها، وهي إضفاء شرعية الوجود اليهودي على أرض فلسطين بالكامل.
ولا خطأ هنالك في كلمة "بالكامل"؛ حيث لم تضفي زيارة السادات الشرعية على وجود "إسرائيل" فحسب على أرض فلسطين المحتلة عام 1948م، بما في ذلك الأراضي الواقعة بين الخط الأخضر وخط التقسيم بموجب القرار 181 الصادر كذلك في نوفمبر عام 1947م، وهي مساحة تتجاوز 78.5 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية، وإنما كذلك على الوجود الاحتلال الصهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م.
فالسادات، وإن كان مندفعًا؛ فإنه لم يكن بالسذاجة السياسية المُتصوَّرة، ولو نزعنا عمَّا جرى نظرية "المؤامرة" التي ترى أن السادات قد تم إعداده لهذه المهمة من قبل ذلك بأكثر من 15 عامًا، عندما زار الولايات المتحدة لأول مرة قبل توليه الحكم، في العام 1962م؛ فإننا سوف نعرف أن السادات وهو يخطو بقدمَيْه على أرض مطار بن جوريون؛ كان يدرك تمامًا، أن كل مكان سوف يخطو فوقه في فلسطين المحتلة، سواء عام 1948م، أو 1967م؛ سوف يمنح من خلال خطواته هذه على أرضية، شرعية كانت دولة الكيان الصهيوني هي أحوج ما تكون إليها.
وفي زيارته للكيان الصهيوني، لم يميِّز السادات إطلاقًا في رحلته بين ما هو محتلٌ عام 1948م، وما هو محتلٌّ في العام 1967م، وحتى في القدس المحتلة، فإنه خطب في "الكنيست" في شطرها الغربي، وزار المسجد الأقصى في شطرها الشرقي بصحبة قادة المؤسسة العسكرية الصهيونية وأكابر مجرمي الكيان الصهيوني الذين منحهم السادات بخطواته على القدرة على القول بشرعية وجودهم على هذه الأرض، واحتلالهم لها.
ومما يدل على أن الزيارة لم تكن اعتباطية أو وليدة خيال السادات واندفاعه الزائد كما عُرِف عنه، أنه قد سبقتها سلسلة من الاتصالات السرية، كانت أهمها لقاء جرى في المغرب، بإشراف العاهل المغربي آنذاك، الملك الحسن الثاني، بين وزير الخارجية الصهيوني في ذلك الحرب موشيه دايان – بطل بني إسرائيل الجديد - ونائب رئيس الوزراء المصري وقتها، حسن التهامي.
كما أن السادات، بحسب شهادات عدة، كان قد تكلم مع عدد من قادة العالم حول الزيارة، للتمهيد لها، ومن بينهم الرئيس الروماني، نيكولاي تشاوشيسكو، والمستشار النمساوي برونو كرايسكي.
الطريف أن رئيس الوزراء الصهيوني في ذلك الوقت، مناحيم بيجين، قد استبق زيارة السادات، بعد أن أعلن عنها أمام مجلس الشعب المصري، وقال إن سياسة حكومته لن تفرط في ثوابت مهمة، وهي أنه: لا عودة لحدود 1967م، ولا اعتراف بدولة فلسطينية، ولا اتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ولذلك؛ فإن كل ما كانت أدوات "بروباجندا" السادات تدعيه حول إضاعة الفلسطينيين لـ"فرصة ذهبية" بعدم مشاركتهم في المفاوضات التي تلت الزيارة، بدءًا من اجتماعات المينا هاوس؛ إنما هو محض هراء؛ حيث إن الموقف الصهيوني الرسمي قد تحدد حتى قبل الزيارة، وليس قبل المفاوضات.
هذه الزيارة المشؤومة؛ لم يقتصر أثرها على لحظتها الزمنية؛ بل إنها أطَّرت لكل ما تلاها من تنازلات وجرائم في حق القضية الفلسطينية، وفي حق شهداء الصراع مع الصهاينة طيلة عقود سابقة
وهذه الزيارة المشؤومة؛ لم يقتصر أثرها على لحظتها الزمنية؛ بل إنها أطَّرت لكل ما تلاها من تنازلات وجرائم في حق القضية الفلسطينية، وفي حق شهداء الصراع مع الصهاينة طيلة عقود سابقة، سواء مع دولة بني صهيون، أو في مواجهة قوى الاستعمار العالمية التي زرعت الكيان الصهيوني في فلسطين، وسعت بكل قوتها إلى تكريس وجوده وتثبيته.
بل إننا يمكن القول بكل اطمئنان، إنه حتى اتفاقيات أوسلو واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بالكيان الصهيوني، واتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان، وسلسلة التنازلات التي تمت طيلة عقد التسعينيات؛ إنما هي مجرد نتائج لزيارة السادات إلى الكيان الصهيوني.
والمؤسف أن الزيارة كان لها نتائجها على صعيد القانون الدولي، وهي نتائج ليست هينة بالمرة؛ فاعتراف بلدٍ ببلدٍ آخر قد يكون من السهولة بمكان، مقارنة بنزع هذا الاعتراف؛ لأن الاعتراف القانوني بكيان سياسي يرسخ لوجوده في وثائق رسمية، وخرائط وغير ذلك، بطريقة لا يعود معها لنزع الاعتراف عنه أي معنىً.
فالاعتراف في القانون الدولي منشئٌ، أي أنه ينشئ ويؤسس لواقع قائم، ولحقوق وأوضاع لا يمكن نزعها بعد ذلك، مثل الحدود، وحتى لو حدث وتراجعت دولة في اعترافها بدولة أخرى؛ فإن ذلك لا يمس الوجود الذي أنشأه الاعتراف الأول بها.
وللتبسيط؛ فإنه حتى لو نزعت غالبية دول العالم التي تعترف بالكيان الصهيوني، لاعترافها به؛ فإن هذا لا يعني أن يتم طرد الكيان من الأمم المتحدة، أو تجميد عضويته فيها، أو نزع "حقوقه" الدولية ككيان سياسي له وجوده.
في المقابل؛ فإن كل الخرائط والوثائق الخاصة بالاتفاقيات التي ترتبت على الزيارة، وهي اتفاقيات كامب ديفيد، الموقع عليها في 17 سبتمبر من العام 1978م، واتفاقية السلام المصرية "الإسرئيلية"، الموقع عليها في السادس والعشرين من مارس من العام 1979م، لم تتكلم عن أي شيء يخص "دولة فلسطينية"، لأن هذا كان ثابتًا صهيونيًّا منذ البداية كما تقدم.
بل على العكس؛ فإن هناك نصوصًا في هذه الاتفاقيات كافة، تفكك أراضي الـ67، ومن بينها قطاع غزة، الذي تضعه في إطار "منطقة ذاتية الحكم" – وتم ذلك بالفعل بحكم الأمر الواقع مما يشير إلى أن الموضوع مرتبط بمخطط أكبر وأبعد زمنيًّا – تنضم بعض أجزائه في وقت لاحق، إلى منطقة تجارة حرة مصرية فلسطينية "إسرائيلية"، تشمل مثلث كرم أبو سالم جنوب القطاع في فلسطين المحتلة عام 1948م.
وهي كلها نصوص تتذرع بها حكومات الكيان عند محاججتها بأي شيء يتعلق بحقوق الفلسطينيين ومطالبهم المشروعة على الأقل في الكيان الذي اعترف به قرار التقسيم الجائر في العام 1947م.
زيارة السادات بحسب إسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق قد "حطمت دور مصر تجاه الفلسطينيين، وعزلت مصر عربيًّا، كما عزلت السادات داخل بلاده"
وهو ما يحتاج إلى دراسة قانونية معمقة لأثر اتفاقيات كامب ديفيد واتفاقيات السلام الموقعة بين مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة، وبين الكيان الصهيوني من جهة.
ونختم هذا الحديث بعبارة لوزير الخارجية المصري الأسبق الراحل، إسماعيل فهمي، لخص فيها أثر الزيارة، عند استقالته احتجاجًا عليها، عندما قال إنها "حطمت دور مصر تجاه الفلسطينيين، وعزلت مصر عربيًّا، كما عزلت السادات داخل بلاده"، وهو ما تحقق حرفيًّا بعد ذلك!