كفاكم سذاجة في فهم إعجاز القرآن الكريم!

الرئيسية » بصائر الفكر » كفاكم سذاجة في فهم إعجاز القرآن الكريم!
quran11

يتناول الكثير من المفسرين اليوم وكذلك العلماء وأغلب الوعاظ والخطباء والدعاة اليوم مواضيع القرآن الكريم بسطحية تامة وبعيداً عن كل قواعد النظر في كتاب الله، ومعرفة أصول وقواعد التفسير خاصة فيما يتعلق بنزول القرآن الكريم وجمعه بين الخطابين؛ خطاب الحاضر الذي خاطب به القرآن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخطاب المستقبل وهو ما خاطب به الله عز وجل الناس من بعد القرن الأول.

فآية لها سبب نزول معين لا تعني انتهاء حكمها في ذلك المكان والزمان بل هي ممتدة متسعة تبلغ الآفاق والمستقبل، فتجميد النص مع الظرف الذي نزل به وإنزاله على واقعنا وإلباسه لباس يومنا الحاضر تسخيف واضح لمضمون النص القرآني، وسيجعل منه متعارضاً لا منطقياً مطلقاً.

وكذلك نبذ الآيات وادعاء أنها نزلت لزمان غير زماننا ولمكان غير مكاننا ولأناس غيرنا ولظروف لا تشبه ظروفنا فهو تعدٍّ واضح على القرآن وعلى منزله وهو الله جل وعلا، وكأنه رمي لهما بالقصور عن إدراك الغيب والمستقبل، وعدم الإحاطة بإمكانية صلاحية هذا الكتاب لكل زمان ومكان.

إن نبذ الآيات وادعاء أنها نزلت لزمان غير زماننا ولمكان غير مكاننا ولأناس غيرنا ولظروف لا تشبه ظروفنا، هو تعدٍّ واضح على القرآن وعلى منزله وهو الله جل وعلا

أما من تعلم القرآن وعلومه من مصادرها الحقيقة وبتجرد عن كل هوى نفس، سيجد في القرآن مفهوماً ومنطوقاً، وسيجد لفظاً عاماً يخص سبباً، وسيجد لفظاً خاصاً يفيد العموم، وسيجد الانسجام التام بين المكي والمدني بين الناسخ والمنسوخ ويراعي التدرج في الأحكام، ومعرفة مخاطبة الناس حسب اعتقادهم.

فالقرآن المكي على سبيل المثال غالباً ما خاطب المشركين الوثنيين، بينما زاد الخطاب المدني لأهل الكتاب الذين من المفترض أن يكونوا موحدين، فبلا شك فإن طبيعة الخطاب ستختلف، خاصة فيما يتعلق بالحجج والبراهين لكلا الطرفين.

وخرج لنا في عصور الترف الفكري والعلمي أناساً جلسوا عند كتاب الله يقلبونه آيات وكلمات وأحرفاً، ليضعوا من الحِكَم وتكلفها، وليصلوا المقطوع ويقطعوا الموصول في كتاب الله، ولينزلوا الكلمات على غير ما تحتمل وتحوير النصوص وأسباب نزولها لما يوافق رغباتهم وأهواءهم.

ولقد جدَّ بهم المسير حتى نأوا شوطاً بعيداً أخرج القرآن الكريم عن حقيقته وعن هدفه وعن ما نزل له ولسببه، ومن هؤلاء القوم أناس أخذوا يعدون الآيات والأحرف والكلمات ويربطونها ربطاً ساذجاً فيه تعدٍّ واضح على القرآن وقدسيته وجلاله، وأسموا ذلك كله بالإعجاز العددي!

من الناس من جمع بين الإعجاز العددي والإعجاز الغيبي أو الإخبار بالغيب ليرسم تاريخاً مستقبلياً لهذه الأمة، وبدأ يتنبأ بالأحداث ووقوعها وما فيها من بلايا أو فتوحات وانتصارات

ومنهم من جمع بين الإعجاز العددي والإعجاز الغيبي أو الإخبار بالغيب ليرسم تاريخاً مستقبلياً لهذه الأمة، وبدأ يتنبأ بالأحداث ووقوعها وما فيها من بلايا أو فتوحات وانتصارات، حتى رأينا منهم من أخبرنا بتاريخ زوال "إسرائيل" أو ظهور المهدي، ومنهم من وجد آية ينزل عليها ما حدث في أمريكا في أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الشهيرة!

وآخرون أمسكوا بكل آية تناولت الطبيعة أو الإنسان أو الفلك أو الشمس أو القمر وغيرها ليصنعوا منها ذلك الإعجاز العظيم أو ما يسمونه بالإعجاز العلمي، وللأسف فإن أغلبهم غير مختص بالقرآن أو بالعلم حتى ينزل الآيات منازل الشعر والنثر كما يشاء، ويضع القوانين والنظريات بناء على تفسيره لآية بفهم ساذج أو بسيط، حتى إن من العلماء من قال: "كفر من قال إن الإنسان صعد على القمر" بحجة أن ذلك إنكار واضح لقول الله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}!!

ولسيد قطب هنا كلام رائع يوزن بالذهب لمن يطوعون النصوص كما يريدون: "وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها؛ كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة -أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي. كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم :

الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.

والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة.

والثالثة: هي التأويل المستمر -مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد.

وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا، ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن، كلا إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال الله سبحانه: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا" انتهى.

والسؤال الذي يبقى هنا هل هناك إعجاز في القرآن، وما هو، وهل صحيح أن هذه "الإعجازات" تعتبر إعجازاً أم أنها مجرد آيات عابرة جاءت للعبرة فقط؟

في البداية علينا أن نعرف معنى كلمة (إعجاز)، فإذا رجعت إلى قواميس اللغة ترى أن الإعجاز يقصد به عدم القدرة على الفعل، والقرآن معجز أي أن البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، وحتى يكون الشيء إعجازاً أو معجزاً فإنه لابد أن يقصد منه التحدي، وأن يكون التحدي لشخص سوي وبكامل أدواته، فعلى سبيل المثال لن تقول إن السمكة تعجز عن تسلق الشجرة لأن السمكة ليست في موضع التحدي لهذا الفعل، وإذا أحضرنا حداداً وأغلقنا عليه غرفة دون وجود الأدوات لديه وأمرناه أن يصنع لنا باباً أو حتى قل قضيباً فإن معنى الإعجاز غير متحقق ولو كان أمهر حدادي الأرض، لأنه لا يمتلك هذه الأدوات التي يدخل بها حيز التحدي والمنافسة.

إن القرآن الكريم لما أتى الناس تحداهم فيما يقدرون على الإتيان بمثله ويمتلكون أدوات التحدي، وهنا هي لغتهم وفصاحتهم، ولكنهم عجزوا عن فعل ذلك

وعليه فإن القرآن الكريم لما أتى الناس تحداهم فيما يقدرون على الإتيان بمثله ويمتلكون أدوات التحدي، وهنا هي لغتهم وفصاحتهم، ولكنهم عجزوا عن فعل ذلك، أما لو تحداهم القرآن بأن يكشفوا أصل الجنين، أو بُعد الشمس عن الأرض أو غير ذلك من العلوم التي لا يملكون أدواتها لأصبح موضوع التحدي باطلاً سخيفاً، إذ كيف من المعقول أن تتحدى عاجزاً لا يمتلك ما تتحداه به.

أما من يقول بأن القرآن صالح لكل زمان ومكان وأن اليوم الأمم قد امتلكت الأدوات فإنه سينطبق عليه الإعجاز العلمي والتحدي الذي نتحدث به، فإن هذا الكلام فيه عوار بيّن ومن أكثر من جهة، أما أولاها فإن القرآن لم يتحدَّ الناس بالعلم والحقائق العلمية، وأما ثانيها فإن القرآن ليس بكتاب علوم، وإن ما اكتشفه الناس اليوم من علوم أكبر بكثير مما كشف عنه القرآن الكريم وهو ما يعني خسراننا للتحدي!

فإن أردت أن تقول إن كشف القرآن لهذه الحقائق كان في عصر قديم وكانت ثورة علمية حقيقة ذلك الزمان أن يكشف عن هذه القضايا كمثل تكون الجنين ومراحل تطوره، إنك بكلامك هذا تعيدنا للنقطة السابقة وهي أن العرب يومذاك لم تكن عندهم أدوات التحدي حتى يتحداهم القرآن بهذا.

ما أهيمة هذا الكلام؟

إن أهمية هذا الكلام تنبع من كون القرآن كتاب حياة ومنهج أمة ودستور المسلمين، فهذا يعني بالضرورة أن نعرف ما هو الواجب تعلمه في القرآن وما هو النفل والكماليات.

إن القرآن الكريم ذلك الكتاب الخالد جاء ليبني النفس الإنسانية بتوازن حسب ما خلقت له، جاء لينظم شؤون البشر جميعاً مع ربهم ومع أنفسهم ومع الناس، بكافة معتقداتهم وأديانهم.

إن بُعدنا عن غاية القرآن والبحث في الهوامش وما وراء النصوص ولماذا قدم هذه الكلمة وأخر تلك أخرج النص القرآني من مفهومه الحي إلى الحروف الميتة الجامدة

إن القرآن الكريم هو الكتاب الأوحد على وجه الأرض الذي أقام نظرية المدينة الفاضلة بكل معانيها والقابلة للتطبيق، وهذا ما حصل في القرن الأول زمن الجيل القرآني الفريد، إن بُعدنا عن غاية القرآن والبحث في الهوامش وما وراء النصوص، ولماذا قدم هذه الكلمة وأخر تلك أخرج النص القرآني من مفهومه الحي إلى الحروف الميتة الجامدة الصامتة، جعلنا نتعامل مع القرآن مثل الدليل لأي آلة أو أداة، جعله كتاباً سردياً لقصص قديمة وكذلك فيه من البلاغة الشيء ذو المستوى الرفيع، وفيه من العلوم ما أعجز أبا جهل وأبا لهب عن اكتشافه!! وفيه من إعجازات العدد ما أعجز الحاسب الآلي عن عدِّه.

إن هؤلاء جاءوا ليخدموا القرآن فأضاعوه، ولنحذر أن يكون هؤولاء ممن قال الله فيهم: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً}؛ فلم يقل هجروا القرآن ولكنهم "اتخذوا" أي أنهم فعلوا فعلا أصبح القرآن من خلاله مهجوراً.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …